مقالات مختارة
"لم يأتِ هجوم حماس من فراغ". عبارة قالها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وجعلت "إسرائيل" تستشيط غضباً منه، فهو بهذه العبارة كان يذكرها بمسؤولية سياساتها الاستعمارية العنصرية والاستيطانية عما جرى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي وما قبل.
من هذه العبارة، انطلق المركز السوري لبحوث السياسات، وإن بشكل غير مباشر، في قراءته للعدوان الإسرائيلي على غزة، وذلك عبر تحليله العميق لأسس الصراع العربي-الإسرائيلي، المتمثلة في الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين، وهو "احتلال مباشر تم تمكينه من خلال اختلال القوة العالمي، والذي ينعكس في الهيمنة باستخدام القوة من دون أدنى اعتبار للقوانين الدولية والقيم الإنسانية".
الأعلى في الإنفاق العسكري
تحت عنوان عسكرة "الدولة" والمجتمع، يشير المركز في مقاله البحثي الأخير الذي حمل عنوان "الاحتلال الاستيطاني لفلسطين: مصنع العنف والظلم" إلى أن الاحتلال الاستيطاني تبنى استراتيجية فرض الهيمنة بالقوة العسكرية، إذ شكلت الميلشيات المتطرفة العمود الفقري لتأسيس الكيان عام 1947، والذي تمركز حول المؤسسة العسكرية، إذ تهيمن القوى العسكرية على مفاصل صناعة القرار وعسكرة المجتمع وتجنيده في مواجهة "الأعداد" الذين هم في الواقع أصحاب الأرض.
وبحسب البيانات الإحصائية العالمية، فإن "إسرائيل" تحتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث نصيب الفرد من الإنفاق العسكري، وهي كذلك من بين أكثر 10 دول مصدرة للسلاح بين عامي 1960 و2022، إذ ارتفعت نسبة مساهمتها من إجمالي صادرات السلاح عالمياً من نحو 0.4% في الفترة الممتدة بين عامي 1960 و1999 إلى نحو 2.3% في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2022.
وفي السنوات الأخيرة، قامت "إسرائيل" بتصدير تقنيات المراقبة والتحكم، بما فيها برمجيات التجسس على الاتصالات، وهي تعدّ من أكبر 10 دول مستوردة للسلاح في العالم خلال الفترة الممتدة بين عامي 1950 و2022.
وإلى جانب عسكرة المجتمع ومحاولة فرض الهيمنة بالقوة العسكرية، عمل الاحتلال على تسييس الهوية الدينية "الذي يعد أخطر محركات النزاع المعاصر في المنطقة، إذ تم تبني أساطير وسرديات دينية لتبرير تأسيس "الدولة" على "أرض الميعاد" و"حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل"، واستخدمت الحركة الصهيونية مظلومية اليهود في أوروبا لحشد الدعم لحماية اليهود من "الخطر" العربي والإسلامي..".
كما ركزت حكومات الاحتلال على سردية "يهودية الدولة"، إذ أقر الكنيست عام 2018 قانوناً له وضع دستوري يؤكد أنّ "إسرائيل" هي "الدولة القومية للشعب الإسرائيلي"، معلناً أن الحق في تقرير المصير داخل تلك الأراضي "خاص بالشعب اليهودي"، ويؤسس الاستيطان اليهودي كقيمة وطنية.
وتأكيداً على ذلك، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في آذار/مارس 2019 صراحةً أنَّ "إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها"، بل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي وحدهم".
الفصل العنصري
لم يعد هناك على وجه الكوكب سوى كيان واحد يتبع سياسة الفصل العنصري، فقد "قدم الاحتلال الإسرائيلي عبر تاريخه نموذجاً غير مسبوق للفصل العنصري، من خلال التمييز الممنهج بناء على الإثنية أو الدين بأخطر أشكاله، بدءاً من استباحة الحق في الحياة والتهجير والاعتقال ومصادرة الأراضي والممتلكات والحرمان من أبسط مقومات الحياة، وصولاً إلى بناء الجدران العازلة وحصار الملايين لعقود من الزمن، وهي ممارسات تصنف جريمة حرب ضد الإنسانية وفق القانون الدولي. وحتى بعد توقيع اتفاقيات السلام، فإن الاحتلال لم يغير من سلوكه وسياساته تلك".
هذه السياسة هي التي تسببت بتشريد ملايين الفلسطينيين داخلياً وخارجياً، "فبعد مرور نحو 75 عاماً على بدء التهجير الجماعي للفلسطينيين، هناك نحو 5.9 مليون فلسطيني يحملون صفة لاجئ، والاحتلال الإسرائيلي لا يزال يرفض إلى الآن أي مفاوضات حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها".
وبحسب البيانات الإحصائية للمنظمات الأممية المعنية، فقد "استقبل الأردن أكبر نسبة من اللاجئين الفلسطينيين، إذ بلغ عددهم لغاية النصف الأول من العام الحالي 2023 نحو 2.38 مليون لاجئ، أي بنسبة قدرها نحو 40% من إجمالي عدد اللاجئين، ونحو 584 ألف لاجئ يعيشون في سوريا ويشكلون ما نسبته 10%، ونحو 490 ألف لاجئ يعيشون في لبنان، مشكلين بذلك نحو 8%، فيما يقطن نحو 1.58 مليون لاجئ في غزة، أي ما نسبته من الإجمالي نحو 27%، و905 آلاف لاجئ في الضفة الغربية بنسبة تصل إلى 15%.
ليس هذا فحسب، فـ"إسرائيل" تعمل اليوم على تهجير ما تبقى من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة إلى كل من مصر والأردن في إطار تنفيذ استراتيجية "الوطن البديل". وقد عبر الاحتلال خلال الحرب الأخيرة على غزة عن هذه الاستراتيجية من خلال السعي لتهجير أهل غزة إلى مصر.
ولسلطات الاحتلال سجل حافل بالانتهاكات الممنهجة لحقوق الفلسطينيين التي تصل إلى حد يمكن وصفها كافة بأنها عبارة عن "جرائم إبادة جماعية من خلال القتل الممنهج، إضافة إلى الاعتقال التعسفي والتهجير والإذلال والعقوبات الجماعية، كالحرمان من الغذاء والمياه والدواء، والتي تعتبر جرائم ضد الإنسانية. ويتعرض الفلسطينيون بانتظام للعنف على يد المستوطنين الإسرائيليين، بما في ذلك الاعتداءات الجسدية وإطلاق النار بالذخيرة الحية وإحراق الحقول وغير ذلك".
الدعم الغربي "الديمقراطي"
وما كان لـ"إسرائيل" أن تفعل كل ذلك لولا الدعم الغربي "الديمقراطي" الذي بدأ مع الدعم البريطاني عبر وعد بلفور، وما تبعه من إجراءات سهلت هجرة اليهود إلى فلسطين، ومن ثم تصدرت الولايات المتحدة الأميركية الدول الداعمة للاحتلال من خلال المساعدات العسكرية وتسخير مواقفها في مجلس الأمن باستخدام الفيتو لإبطال عشرات القرارات التي تدين انتهاكات الاحتلال.
وبلغة الأرقام الأميركية نفسها، فإن قيمة المساعدات المادية التي قدمتها واشنطن لـ"إسرائيل" بلغت أكثر من 260 مليار دولار بالأسعار الحقيقية، وذلك خلال الفترة الممتدة بين عامي 1946 و2023، ومن دون احتساب الدعم المرتبط بالعدوان الحالي، وتستحوذ المساعدات العسكرية على نحو 78% منها، علماً أن الولايات المتحدة لا تفرض قيوداً على توظيف المساعدات لمصلحة ممارسات تناقض مبادئ الديمقراطية بشكل جوهري، كاستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية والسورية، والتوسع الاستيطاني، وهدم المنازل الفلسطينية، وغيرها من الممارسات التي تكرس الاحتلال.
وبشكل مماثل، تمتع كيان الاحتلال بمعاملة استثنائية من الاتحاد الأوروبي، وتم تصنيفه على أنه حالة خاصة من قبل المجلس الأوروبي فيما يتعلق بعلاقاته الاستراتيجية مع دول الاتحاد، فقد سمح له بالتمتع بأفضلية في المبادلات التجارية والمعاملات الاقتصادية، وتبع ذلك توقيع اتفاقية شراكة أوسع عام 1995 شملت مختلف القطاعات، بما فيها الزراعة والصناعة والقطاع العسكري والتعاون البحثي العلمي.
ويختم المركز مقاله بالقول: "إن مقومات النزاع التي تصنعها "دولة" الاحتلال والدول الداعمة لها ستستمر في تدمير مقومات دول المنطقة وتنتج الظلم والهيمنة، وآخر أمثلتها حملة الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزة.
إن الاستثناء الإسرائيلي يسقط خطاب حقوق الإنسان، ويهدد بالتطبيع العالمي مع هدر القيم الإنسانية واستباحة الشرعية الدولية، ولا يمكن تفكيك منظومة الحرب والدمار إلا بتغيير جذري في مقاربة القضية الفلسطينية وتفكيك منظومة الاحتلال والفصل العنصري الإسرائيلية".
زياد غصن ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً