مقالات مختارة
بينما انشغلت "إسرائيل" بالاحتفال بـ"يوم الغفران"، يوم السبت 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، دوّت صفارات الإنذار عند الساعة الثانية بعد الظهر، وهبّ الاحتلال من أجل مواجهة الحرب.
استؤنف البث الإذاعي، الذي توقف بسبب الاحتفال، وأعلن اندلاع القتال، وبدأ استدعاء قوات الاحتياط، وأعلنت حالة الطوارئ.
وعلى الرغم من أنّ وزير الأمن حينها، موشيه دايان، توقّع عام 1972 أن تواجه "إسرائيل" خطر حرب مقبلة مع تعذّر المفاوضات، فإنّ "الجيش" الإسرائيلي لم يكن مستعداً لهذا النوع من الحرب التي وجد نفسه فيها.
لم يتمكّن "التفوّق" الجوي الإسرائيلي من احتواء الهجوم البري المصري والسوري المشترك، على الرغم من أنّه يُعدُّ إحدى القواعد الأساسية التي ترتكز عليها عقيدة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، لما يؤمّنه من "ردع للأعداء"، وقدرة على توجيه الضربات في مواقع بعيدة.
وقبيل حرب عام 1973، تمسّك الإسرائيليون بهذا المبدأ، وتبنّى دايان هذا المفهوم وروّج له، معتبراً أنّ مصر لن تهاجم "إسرائيل"، إلا إذا ضاهتها في القوة الجوية، بيد أنّ الـ6 من تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 أثبت العكس.
قوات مرتبكة ومنهكة
لم يكن الإسرائيليون في وضع جيد من الناحية العددية، بحسب الأرشيف الإسرائيلي، ففي سيناء كانت نسبة عديدهم 1 إلى 11 تقريباً، و1 إلى 10 في الجولان المحتل، ويشمل هذا الجنود والدبابات وقطع المدفعية.
في الجنوب، بلغ عدد الجنود المصريين 300 ألف، وكان لدى الجيش ما يزيد على 2400 دبابة، و2300 قطعة مدفعية. وفي الهجوم الأولي شارك نحو 200 ألف جندي، 1600 دبابة، و2000 قطعة مدفعية. وفي مقابل القوات المصرية، كان ثَمَّ 1800 جندي إسرائيلي فقط، و300 دبابة، و90 قطعةً مدفعية. وفي غضون ذلك، كانت قوات التعزيز الأقرب على بعد 24 ساعةً، وكل ذلك بحسب المصادر الإسرائيلية.
تدهور وضع الاحتلال بسبب ضعف قواته البرية، إذ عبرت مئات الدبابات المصرية قناة السويس باتجاه الشرق، مكبّدةً القوات الإسرائيلية المنهكة خسائر فادحة، حيث فقدت معظم دباباتها.
في مذكراته، تحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون، الذي قاد فرقة دبابات خلال الحرب، عن الارتباك الذي أصاب الجنود الإسرائيليين، والصدمة التي عاشوها عند رؤيتهم الجنود المصريين يعبرون القناة. وبينما كان الإسرائيليون "يحرسون" خط "بارليف"، وهو عبارة عن سلسلة من 16 معقلاً خلف حاجز رملي ضخم، تمكّنت القوات المصرية من التوغّل عبر الفجوات الواسعة التي كانت تفصل بين معقل وآخر، بحيث لا يمكن أن يقدّم أحدها دعماً نارياً فعالاً للآخر.
أما على الجبهة الشمالية، فكان لدى الجيش السوري 60 ألف جندي و140 دبابة، بالإضافة إلى 600 قطعة مدفعية. أما قوات الاحتلال فكان قوامها 6000 جندي، 170 دبابةً و60 قطعةً مدفعيةً فقط، بحسب المصادر الإسرائيلية.
العميد أفيغدور كهالاني، قائد كتيبة الدبابات 77 في الجولان المحتل خلال الحرب، قال إنّه أدرك منذ اندلاع الحرب على الجبهتين أنّ "القوات الإسرائيلية كانت أقل عدداً بكثير". وأقرّ كحالاني بأنّ الدبابات التي امتلكتها سوريا أكثر من تلك الإسرائيلية، بـ8 إلى 10 مرات، كما أنّها أفضل أداءً. وفي حديثه إلى وكالة "فرانس برس" عن بعض ما جرى أثناء الحرب، قال إنّ 160 دبابةً سوريةً قابلتها 10 أو 12 دبابةً إسرائيليةً على خط واحد.
وفي جنوب ووسط الجولان المحتل، عمّق السوريون سيطرتهم، ووصلت الوحدات السورية إلى نقطة قريبة جداً من جسور نهر الأردن، المؤدية إلى فلسطين المحتلة، ولم يواجهوا سوى قوات إسرائيلية منهكة عاجزة عن إيقاف تقدّمهم.
وفي حين حاول "جيش" الاحتلال تغيير مسار الحرب عبر استخدام تشكيلات الدبابات، من دون أن يحصل على دعم كافٍ من القوات المساندة، استنزف الصراعُ المركبات المدرعة والذخيرة وحياة الجنود الإسرائيليين.
كانت القيادة العليا لـ"جيش" الاحتلال تفترض أن تقدّم المخابرات العسكرية تحذيراً قبل 5 أو 6 أيام من نشوب أي حرب، بما يسمح بالتعبئة الكاملة، ويتيح الوقت لاستعداد جنود الاحتياط، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، التي نشرت تقريراً مفصلاً يتناول ما شهدته الأروقة الإسرائيلية في الـ6 من تشرين الأول/أكتوبر 1973.
رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي في ذلك الوقت، دافيد إليعازر، أكد وجود معلومات بشأن حرب مع مصر وسوريا خلال ساعات (صباح يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر). وعند لقائه دايان، طلب تأمين تعبئة كاملة لما يتراوح بين 200 ألف و250 ألف جندي احتياط، بيد أنّ هذا الطلب قوبل بالرفض.
وإذ اعتقد دايان أنّ مجرد تعبئة هؤلاء يعد إعلان حرب، رأى أنّ ما يمكن القيام به خلال تلك المرحلة هو تعبئة من 20 ألف إلى 30 ألف جندي بهدف "الدفاع". لكن رئيس الأركان أصرّ على أنّ العدد يجب أن يفوق ذلك، مؤكداً أنّ "الدفاع" وحده سيتطلب ما بين 50 ألف إلى 60 ألف جندي احتياط، أي ضعف الرقم الذي طرحه دايان، كما حثّ على تعبئة القوة القتالية الاحتياطية.
وافق دايان على تعبئة ما بين 50 - 60 ألف جندي احتياط، لكن موافقته لم تكن كافيةً، إذ كان من الضروري الحصول على موافقة رئاسة الوزراء، التي شغلتها حينها غولدا مائير. وعند لقاء مائير، عاد إليعازر ليطالب بتعبئة عدد أكبر من الجنود، تراوح بين 100 و120 ألف جندي. حاز هذا الطلب على موافقة مائير، إذ كان على قوات الاحتياط أن تكون جاهزةً في أقرب وقت ممكن، مع غياب احتمال تنفيذ ضربة استباقية.
وبعد هذا اللقاء الحاسم، التقى إليعازر رئيس المخابرات العسكرية، إيلي زئيرا، لينضمّ إليهما وزير دايان. وأثناء اللقاء، سأل الأخير عن موعد وصول قوات الاحتياط. ولدى الإجابة على هذا السؤال، كانت تقديرات إليعازر أن تصل 300 دبابة بحلول الأحد، و300 أخرى يوم الإثنين، و300 أخرى أيضاً يوم الثلاثاء، ما يعني أنّ قوات الاحتياط ستصل متأخرةً إلى الجبهتين، فالحرب اندلعت يوم السبت.
هذا التأخر في طلب قوات الاحتياط ووصولها إلى ميدان المعركة، رأته وسائل الإعلام الإسرائيلية والمحللون الإسرائيليون مؤشراً على الانقسام في المستويات المختلفة للمؤسسة العسكرية والسياسية في كيان الاحتلال، وغياب الانسجام والقرار الموحد.
"جرح عميق وصدمة مستمرة"
بعد 50 عاماً على حرب تشرين/أكتوبر، لا تزال الصدمة التي تحدّث عنها شارون في مذكراته تلقي بثقلها على "الجيش" الإسرائيلي، ولا تزال أزمات الجهوزية والاحتياط والانقسام السياسي، حاضرةً، وتقوّض الردع الإسرائيلي المتآكل أصلاً.
تاليا لانكري، وهي عقيد في احتياط "جيش" الاحتلال، استذكرت حرب تشرين/أكتوبر الشهر الماضي، واصفةً إياها بـ"الجرح العميق، والصدمة التي نعيشها طوال الوقت، إذ إنّ كل شيء نراه يدلّ على أنّ حرباً ستحدث".
وفيما تؤكد وسائل إعلام إسرائيلية أنّ حرب أكتوبر كانت سبباً في زعزعة اليقين والغطرسة في "إسرائيل"، رسّخت الحروب المتعددة اللاحقة، التي فشلت فيها "إسرائيل" بمواجهاتها البرية أيضاً، عدمَ اليقين هذا، ففي عام 2000، انسحب الاحتلال من الجنوب اللبناني، وفي عام 2005، انسحب من قطاع غزة، من دون أن يفرض أي شروط على أي منهما.
وحرب تموز/يوليو عام 2006، التي أريد منها سحق المقاومة في لبنان، انتهت بهزيمة ساحقة لـ"إسرائيل". وشهدت المعركة ملحمةً بريةً بين المقاومين وجنود الاحتلال، في الوقت الذي حاولت فيه القوات الإسرائيلية تحقيق تقدم بري في اتجاه الليطاني بقيت عاجز عنه طوال فترات الحرب. أرسل الاحتلال 130 ألف جندي، "قاموا بأكبر إنزال بري للقوات" في تاريخ الكيان، لتعلن الوصول إلى الليطاني. كما أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أنّ 50 مروحيةً نقلت مئات الجنود إلى لبنان، وذلك في أكبر عملية برية منذ عام 1973.
وفي وادي الحجير، دمّرت المقاومة في لبنان دبابات "الميركافا" الإسرائيلية، وقضت على أكثر من 39 دبابةً وجرافة، وما يزيد على 20 جندياً وضابطاً إسرائيلياً، فعمّقت في جراح "جيش" الاحتلال وهزائمه البرية.
أما عام 2014، وفي أعقاب استدعاء الحكومة الإسرائيلية، التي ترأسها في ذلك الحين بنيامين نتنياهو، مزيداً من قوات الاحتياط للمشاركة في العدوان الذي شُنّ على قطاع غزة، حثّت صحيفة "هآرتس" على "التفكير مرتين، بل عشر مرات، بل مئة مرة، قبل أن تقرّر الحكومة إدخال قوات برية إلى القطاع".
وحينها، شكّلت أنفاق المقاومة مفاجأةً لقوات الاحتلال التي شنّت عدواناً برياً على القطاع، بهدف السيطرة على المناطق التي تتمركز فيها المقاومة، واستطاعت الأخيرة أن تفاقم المخاطر التي يمكن أن تتعرّض لها القوات الإسرائيلية المتوغّلة.
صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" نقلت عن إسحاق بريك، المعيّن لدى وزارة الأمن عام 2008 ليستقصي شكاوى الجنود في "الجيش" الإسرائيلي واللواء في الاحتياط حالياً، قوله إنّ القوات البرية في "الجيش" الإسرائيلي غير مستعدة لخوض حرب في المستقبل.
تحذير بريك هذا جاء في أواخر عام 2018، وحينها أكد المسؤول الإسرائيلي وجود مشكلات لوجيستية، ونقص في مخزون الأسلحة، ما يتسبّب بافتقار القوات إلى المعدات اللازمة في ساحة المعركة. بريك زار قبيل إصدار تحذيره 1400 وحدة في "الجيش"، وتحدّث إلى عشرات آلاف القادة والجنود، بحسب ما أوردت "تايمز أوف إسرائيل" عنه. وبناءً على هذا، خلص إلى أنّ القوات البرية في الميدان تعاني "مشكلات جدية" من النواحي اللوجيستية والتكنولوجية والعملياتية. إلا أنّ المشكلة المركزية وفقاً له، تكمن في "الثقافة التنظيمية" في "الجيش"، التي عزّزت المشكلات العميقة، إلى أن صار إصلاحها صعباً للغاية.
أوري غوردين، الذي يشغل حالياً منصب قيادة الجبهة الشمالية في "جيش" الاحتلال، شارك بريك بعض مخاوفه، مؤكداً وجود ثغرات في العديد المطلوب، بالإضافة إلى نقص في الميزانية، في ما يتعلق بتخزين المعدات التي ستحتاجها القوات البرية في وقت الحرب.
هذه الثغرات موجودة في كل مكان، كما قال غوردين. وعلى الرغم من محاولة سدّ هذه الفجوات عبر الاستثمار بـ200 مليون شيكل (أكثر من 53 مليون دولار) وفق ما قال، فإنّ "الجيش" كان بحاجة إلى المزيد.
وعام 2021، كثر الحديث عن نية "إسرائيل" الدخول براً إلى قطاع غزة خلال معركة "سيف القدس"، بيد أنّ الاحتلال أكد حينها أنّ هذا الخيار "غير وارد"، حتى إنّ قائد سلاح الجو السابق في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، إيتان بن إلياهو، رأى أنّ هذه الخطوة "لا تضيف شيئاً، بل إنّها أكثر خطورة". في المقابل، أبدت المقاومة الفلسطينية قدرتها على المواجهة في حال حصول ذلك، إذ إنّ أي توغل بري بالنسبة لها فرصة من أجل "زيادة غلّتها من قتلى العدو وأسراه"، كما أكدت حينها كتائب القسام، و "أقصر الطرق إلى النصر" أيضاً، كما قالت سرايا القدس.
الاحتياط: أزمة قديمة متجددة
وفي ما يتعلق بقوات الاحتياط، يعيش "جيش" الاحتلال بأذرعه كافة زلزالاً يبدّد كفاءته وجاهزيته في حال اندلاع أي حرب. والمعضلة التي يواجهها اليوم لا ترتبط بإمكان تأخر استجابة قوات الاحتياط في أي مواجهة مقبلة فحسب، كما كانت الحال قبل 50 عاماً، بل في توفّرها أصلاً، إذ تشهد المؤسسة العسكرية بين الحين والآخر استقالات من قِبل متطوعين في الاحتياط ورفضاً لأداء مهماتهم والالتحاق بتدريباتهم الدورية.
ولمّا كان ثَمَّ انقسام قبيل ساعات من بدء الحرب عام 1973 بشأن عدد قوات الاحتياط، فإنّ الأزمة اليوم بين القيادة العسكرية وتلك السياسية أكثر استفحالاً، مع استمرار الانقسام بشأن قضية التعديلات القضائية منذ أشهر، واختراق هذا الانقسام صفوف "الجيش" وتأثيره البالغ على قوات الاحتياط وخصوصاً الجوية منها.
بعد ساعات من اندلاع الحرب في الـ6 من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وفي خطاب وجهته إلى المستوطنين، دعت رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير، إلى الصبر، مبديةً ثقتها بـ"روحية الجيش، وقدرته على القضاء على العدو". أما اليوم، فيتحدث رئيس الاحتلال، إسحاق هرتسوغ، عن "أزمة تاريخية تعيشها إسرائيل"، ويحذّر قائد سلاح البر سابقاً، اللواء في الاحتياط، غاي تسور، من "النسيج الاجتماعي الذي يتفكّك، وضمنه الجيش الإسرائيلي".
وفي غضون الحديث عن "مستقبل غير مضمون" تواجهه "إسرائيل"، تشخص العيون نحو الجبهات المتعددة، حيث سيضطر الاحتلال إلى التفكير ملياً بخيمة على الحدود مع لبنان، أو نفق من أعماق قطاع غزة المحاصر، أو عبوة ناسفة يطلقها مقاومون في الضفة الغربية، قبل أن يقرر إرسال جنوده ودباباته إلى أي مواجهة.
فاطمة كرنيب ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً