أقلام الثبات
هل بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هجومه المضاد في أفريقيا، على نفوذ أميركا ودول حلف "الناتو" الغربية، رداً على إستهداف بلاده المستمر منذ سقوط الإتحاد السوفياتي، فما يجري في أوكرانيا حالياً هو معركة دفاعية بالكامل تخوضها روسيا، لأن "الناتو" وصل إلى أبواب موسكو، بعد أن إجتاح معظم دول أوروبا الشرقية، التي كانت منخرطة مع روسيا السوفياتية في حلف "وارسو"، خلافاً للوعود التي نثروها على ميخائيل غورباتشيف، لقاء قبوله بتفكيك الإتحاد الذي كان يترأسه. كما أن أميركا و"الناتو" لم يتركوا صديقاً لموسكو، من آسيا إلى افريقيا إلى أميركا اللاتينية، إلا وأطاحوا به، أو حاصروه ونكلوا به وبشعبه.
أما وضع الهجوم، فهناك حديث قد بدأ عن "حزام انقلابات"، يمتد بطول 3,500 ميل، من غينيا في الغرب إلى السودان في الشرق. يفتح فيه الرئيس بوتين، "جبهة ثانية" على أوروبا، في جنوب البحر المتوسط، في أفريقيا، القارة الأهم التي ما زال الغرب يمارس فيها نهبه لخيرات شعوبها ويمنعها من التقدم والتنعم بثروات بلادها.
وحسب وسائل إعلام غربية، فهذا الانقلاب هو السابع في غرب ووسط إفريقيا، خلال ثلاث سنوات. وسقوط رئيس النيجر محمد بازوم، هو إطاحة بأهم حليف للغرب في منطقة الساحل الأفريقي. قد يسجله البعض نجاحاً باهراً لمنظمة "فاغنر" الروسية، باعتبار أن هناك من أعتبر راس الإنقلابيين، رئيس المجلس العسكري الجنرال عبد الرحمن تيابي، صديقاً لروسيا.
أما تهديدات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وعقوباتها، بحق النيجر، فيبدو أنها بدورها جوفاء، فبعض أعضاء المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، البالغ عددهم 15 دولة، يرفضون أي عمل عسكري ضد الإنقلابيين، الذين تجهر مالي وبوركينا فاسو بدعمها لهم. ومن خارج المنظمة، حذرت وزارة خارجية الجزائر "من محاولات التدخل العسكري في النيجر". ودعت "إلى استعادة النظام الدستوري في البلاد عن طريق الوسائل السلمية". ولعل هذا التضامن من قبل الدول المعادية للوجود الإستعماري الفرنسي في أفريقيا، جعل الجنرال تيابي يعلن رفضه "الانكسار أمام أي تهديد من أي مصدر كان".
كذاك رفض العقوبات الدولية ضد بلاده. كما أن التظاهرات التي خرجت في شوارع العاصمة نيامي، رافعة أعلام روسيا، لا تمثل دعما جماهيريا للانقلاب فقط، بل ولمنظمة "فاغنر" الروسية. وتكشف أن فرنسا لا تملك شعبية في هذه المنطقة، فسياستها القاضية بالتدخل في مستعمراتها السابقة، أعطت نتائج عكسية واسعة. خصوصاً أن الفرنسيين لا يبذلون مجهوداً كافياً لطي صفحة ماضيهم الإستعماري، فهم ما زالوا يمارسون النهب والإستغلال لتلك الدول والشعوب. وتعتبر النيجر أهم مصدر لليورانيوم لباريس، التي لديها فيها قاعدة عسكرية، على غرار وجودها في باقي مستعمراتها السابقة.
هذا "الهجوم" الروسي، هو ليس فقط ردة رجل للغرب في افريقيا، بل هو إحياء لمشروع سبق ان قاده رئيس مصر والزعيم العربي جمال عبد الناصر، ما بين أعوام 1952 و1970. فعبد الناصر، حدد في كتابه فلسفة الثورة ميدان تحركه الثوري المناهض للرجعية والإستعمار، بثلاث دوائر: عربية وإسلامية وأفريقية. وكتب عن الدائرة الأفريقية: "إننا لن نستطيع بحال من الأحوال ـ حتى لو أردنا ــ أن نقف بمعزل عن الصراع الدامي المخيف، الذي يدور اليوم في أعماق إفريقيا، بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الإفريقيين، لا نستطيع لسبب هام وبديهي، هو أننا في إفريقيا، ولسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالي للقارة، والذين نُعتبر صلتها بالعالم الخارجي كله. ولن نستطيع بحال من الأحوال أن نتخلى عن مسؤوليتنا في المعاونة بكل ما نستطيع على نشر الوعي والحضارة حتى أعماق الغابة العذراء".
وهكذا حوّل جمال عبد الناصر القاهرة إلى مركز مناهض للاستعمار، فساهم في بناء كتلة العالم الثالث في مؤتمر باندونج. وشارك في أولى محاولات بناء الكتلة الإفريقية المناهضة للاستعمار، في غانا باجتماع أكرا عام 1958. الذي حضرته الدول المستقلة وقتها، مثل مصر، إثيوبيا، ليبيا، المغرب، تونس، السودان وليبيريا. وكان الغرض من المؤتمر وضع سياسة مشتركة للشؤون الخارجية والثقافية والاقتصادية الإفريقية . واهتم عبد الناصر بكشف الدعايات الغربية التي قسمت افريقيا إلى قسمين: شمال وجنوب تفصلهما الصحراء الكبرى. فأكد على وحدتها العضوية في كل خطاباته. كما ساعد حركات التحرر الإفريقي وزودها بالسلاح والمال والدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي. وفتح ابواب الجامعات المصرية أمام مئات الطلاب الأفارقة.
وهكذا إعتبر عام 1960 عاما للتحرير الإفريقي، إذ حصلت 30 دولة إفريقية على استقلالها في هذا العام وحده، بعد أن كان عدد الدول الأفريقية المحررة قبل قيام ثورة 23 يوليو هي 4 دول فقط. وقاومت مصر عبد الناصر حركات الانفصال، بعد استقلال الدول الأفريقية، خصوصاً في نيجيريا (منطقة بيافرا)، حيث البترول؛ والكونغو (زائير)، حيث توجد ثروات معدنية ضخمة فى كاتنجا؛ وفي جنوب السودان وغيره. ونجح عبد الناصر في تحويل صورة العربي في إفريقيا، من صورة تاجر الرقيق، التي ساهم الاستعمار و"إسرائيل" في تغذيتها دومًا، إلى صورة شريك التحرر. وقد اعتبر عبد الناصر من الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية، التي عقدت مؤتمرها الأول في أديس أبابا عام 1963، بحضور رؤساء 30 دولة إفريقية. وكان لعبد الناصر رفاق أفارقة في دربه الطويل، نحو تحقيق الحلم الإفريقي في الاستقلال وتقدم الدول الإفريقية، مثل كوامى نيكروما وأحمد سيكوتوري.
وحينما توفي عبد الناصر في أيلول 1970، نعاه الرئيس الكيني جومو كينياتا بقوله: "أنا واحد من أمّة كبيرة فُجعت في الوالد العظيم". وحين زار نيلسون مانديلا مصر لأول مرة، توجه من المطار مباشرة إلى قبر عبد الناصر. ووقف أمامه صامتًا لدقائق عدة، ثم قال لمرافقيه من المصريين، إنه كان يتمنى أن يزور مصر في حياة عبد الناصر ليحظى بشرف استقباله ورؤيته.
وكل هؤلاء لم ينس بوتين توجيه التحية لهم في القمة الروسية –الأفريقية، التي إنعقدت الأسبوع الماضي في سان بطرسبورغ، التي شهدت خطوات تعبد الطريق التي سار عليها عبد الناصر، حيث تعهد الرئيس الروسي بوتين "بإرسال الغذاء والسلاح لأفريقيا. وتعزيز التعاون مع أجهزتها الاستخباراتية". كما تعهد بوتين في القمة، التي حضرتها 49 دولة من أصل 54 دولة أفريقية "بأن تكون هناك آلية عمل وتنسيق بين روسيا وأفريقيا في المرحلة المقبلة". وقال: "سنقدم مساعدة للدول الأفريقية لمحاربة الأوبئة. وقد وصلت المبالغ المخصصة إلى 1.5 مليار روبل". وقال "إن الشركات الأفريقية منفتحة على تمكين الشركاء الأفارقة من التكنولوجيا وزيادة التعاون الثقافي والرياضي. وأن لدى موسكو خطة عمل مع أفريقيا حتى عام 2026، تهدف لزيادة التبادل التجاري وبنيته التحتية والتعامل بالعملات المحلية".
وأضاف: "اتخذنا موقفا موحدا بالقمة الأفريقية الروسية، على تحدي النظام الاستعماري ومحاولات القضاء على القيم". وأكد "أن روسيا مستعدة لتزويد أفريقيا ببعض الأسلحة مجانا، لتعزيز الأمن في القارة والعمل بشكل أوثق مع أجهزة إنفاذ القانون ". وذكر أن موسكو "ألغت ديونا على أفريقيا بقيمة 23 مليار دولار".وأن "أفريقيا تتحول إلى مركز قوة جديد وينبغي للجميع أخذ ذلك في الحسبان". فهل يقايض الغرب مصالحه في افريقيا بوقف هجومه في أوروبا الشرقية، أم تكون أفريقيا الرابح في هذا الصراع العالمي؟