مقالات مختارة
أثارت السياسات السعودية، الداخلية والخارجية، خلال السنوات الأربع الأخيرة موجة من التساؤلات المحيرة لمن اعتاد نمطاً محدداً لسياساتها لعقود ثمانية، ما دفع إلى سيطرة الشكوك على أهدافها الحقيقية، وخصوصاً ما يتعلق بطبيعة الدور الذي تسعى له ومستقبل التطبيع مع الكيان الصهيوني.
من الطبيعي أن تسيطر الشكوك على النخب السياسية العربية، فقد اعتادت صورة واحدة لسياسات المملكة التي قاربت مئويتها الأولى، ولا تغادرها صور متتابعة، وخصوصاً أن مجمل تاريخها يؤكد ناحية واحدة، باعتبارها جزءاً من المشروع الغربي بشكل عام، منذ أن التقى الملك عبد العزيز آل سعود فرانكلين روزفلت، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، على ظهر المدمرة "يو أس أس كوينسي" في قناة السويس عام 1945. وكان من أهم البنود آنذاك توفير الولايات المتحدة الحماية اللامشروطة للعائلة المالكة، في مقابل ضمان السعودية إمدادات الطاقة التي تستحقها الولايات المتحدة.
سيطر هذا الاتفاق على مجمل السياسات السعودية في كيفية تعاملها مع مجمل الملفات الداخلية والإقليمية والدولية التي تصب في خدمة المصالح الأميركية أولاً وآخراً، بما في ذلك القضية الفلسطينية التي تمثل أهم مسألة وجدانية وحقوقية لدى العرب والمسلمين، إضافةً إلى كل قوى التحرر من الهيمنة الغربية في العالم، فلم تكن من الناحية الفعلية تتبناها، بل حاولت من الناحية الفعلية أن تقلصها، من خلال تبني الجامعة العربية لمبادرتها التي طرحها ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز في قمة الجامعة في بيروت 2002، التي تنصّ من الناحية الفعلية على الاعتراف بـ"إسرائيل" بإقرار مبدأ الدولتين.
بقيت السياسات السعودية ضمن سياق معاهدة المدمرة كوينسي نفسها، إلى أن أصابها زلزال ضربة منشآت أرامكو في المنطقة الشرقية في 18 أيلول/سبتمبر 2019، وتنصل الولايات المتحدة من المعاهدة، وترك المملكة وحيدة في مواجهة الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية، على الرغم مما دفعته من أموال لشراء أسلحة ومعدات أميركية لدعم الرئيس دونالد ترامب قاربت 450 مليار دولار، بل إن الأميركيين سحبوا صواريخ باتريوت من المملكة، للدلالة على رفضهم خوض أي حروب مباشرة لمصلحة أحد.
تحول الرهان بعد نكوص الأميركيين للبحث عن بديل آخر، فكان الرهان على إمكانية إقامة حلف دفاعي يجمع كلاً من الإمارات والبحرين والسعودية و"إسرائيل" لمواجهة إيران كعدو مشترك.
استلزم الأمر تحويل "إسرائيل" إلى دولة طبيعية مقبولة في المنطقة، بالعمل على ترويج الديانة الإبراهيمية كمشترك جامع بين الإسلام والمسيحية واليهودية، استعداداً للمرحلة المفصلية، فكان أن خاضت الإمارات العربية المتحدة غمار التجربة التي تُوِّجت بفتح العلاقة مع "تل أبيب" التي لم تلقَ قبولاً من الإماراتيين أنفسهم، الذين لم يذهب منهم للسياحة في "إسرائيل" خلال عام سوى 1500 إماراتي، في مقابل 600 ألف سائح إسرائيلي زاروا دولة الإمارات العربية المتحدة.
ساهمت مجموعة من العوامل في بدء إعادة تشكيل الرؤية السياسية للمملكة، وهي التي كان تبادلها التجاري مع الصين يتجاوز أي شريك آخر، ولم يعد نفطها يهم الولايات المتحدة إلا في حال اندلاع الحرب مع الصين بقطع موارد النفط الخليجية، فكان أن تشكل العامل الأول، بالمقارنة بين تعامل الشريك التجاري السابق المعتمد على الابتزاز والهيمنة والتنصل من الاتفاقيات، والشريك التجاري الحالي الذي يعتمد على مبدأ المصالح المشتركة وعدم التدخل في السياسات الداخلية والخارجية للدول.
العامل الثاني كان اكتشاف السعودية أن العلاقة مع "إسرائيل" لن تؤمن الحماية لها، بل إن غايتها هي إيجاد دول بديلة من الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بدور الدفاع عنها، بتحويل المواجهة مع إيران إلى الساحة الخليجية، بديلاً من ساحة فلسطين. وقد أدى رحيل رئيس الوزراء نفتالي بينيت وفوز اليمين الديني المتشدد، بقيادة بنيامين نتنياهو، دوراً محرجاً ومهماً في إعادة التفكير في الاعتراف الرسمي "بإسرائيل".
العامل الثالث يتعلق بالعلاقة مع روسيا، التي منحت المملكة إشعاراً بوجود شريك مُطَمئن يمكنها الاعتماد عليه، ما دفع العلاقة بين الطرفين إلى تحالف نفطي مختلف ضمن إطار "أوبيك بلس"، الذي يتيح للطرفين التحكم في أسعار النفط بما يخدم مصالح بلديهما، ويمنع الولايات المتحدة من ابتزاز السعودية على حساب مصالحها، والتجارب في هذا المجال كثيرة.
العامل الرابع هو وضوح معالم جديدة على مستوى الصراع الدولي، وتراجع الولايات المتحدة عن مكانتها المهيمنة المطلقة، وبقاؤها قوة أكبر في مقابل قوى كبرى جديدة تخوض صراعاً معها على المستوى الاقتصادي والعسكري، بما يؤكد أن موعد ولادة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب والسياسات والثقافات قد اقترب.
العامل الخامس اكتشفته من خلال حربها في اليمن، التي كانت تعتبرها جزءاً من صراعها مع إيران، ليتبين لها بعد العجز عن القضاء على تجربة أنصار الله أن استمرار الصراع في اليمن أو مع إيران يمكن أن يشكل تهديداً لمستقبلها.
هذه العوامل مجتمعةً أتاحت للمملكة إعادة النظر في توجهاتها السياسية، وخصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا، فاكتشفت هامشاً كبيراً للحركة، بما يمنحها دوراً كبيراً على مستوى العالم العربي، وهي صاحبة مساحة هائلة وثروات باطنية لا تحصى، وذات بنية سكانية تجاوزت 32 مليون نسمة، فاندفعت للمصالحة مع إيران من البوابة الصينية، وتعزيز تحالفها مع روسيا، بإفشالها للعقوبات الأميركية على مستوى أسعار النفط، ثم انفتاحها على سوريا ونجاحها في إعادتها إلى الجامعة العربية، والبحث عن تسوية سياسية مقبولة في اليمن، واعترافها بقوة أنصار الله كرقم صعب تجاوزه.
هذا التحول السعودي منح المملكة دوراً جديداً ومختلفاً عن العقود الثمانية الماضية، فقد أدركت ضرورة خروج منطقة غرب آسيا من منطق ساحة الصراع، والتحول نحو بناء نظام إقليمي جديد بالشراكة مع تركيا وإيران، اللتين سبقتاها بأشواط في ذلك.
هل تذهب المملكة للاعتراف الرسمي بـ"إسرائيل"؟
على الرغم من عدم وجود خلفية عقائدية لرفض الاعتراف، فإن مكتسبات الدور الجديد للمملكة وإمكانية توسعه في المستقبل، وخصوصاً بعدما أصبحت القاطرة التي يعول عليها العرب كبيرة، كما أن هذا الدور الجدي يتناقض مع الدور الوظيفي للكيان الصهيوني الذي لا يسمح ببروز أي قوة إقليمية تتجاوزه، مهما كانت، وهذا ما أفاد السعوديين الذين واجهوا الضغوط الأميركية للتطبيع بشروط 3 أساسية ترفضها قطعياً "تل أبيب"، وهي تزويد السعودية بالأسلحة الأكثر تطوراً، وهذا خرق للتفوق الإسرائيلي، والثاني بناء مفاعل نووي سلمي، وهو مرفوض خشية تحوله إلى مشروع عسكري، والثالث هو حل القضية الفلسطينية وفقاً لمبدأ "حل الدولتين"، الذي ردّ عليه نتنياهو بضرورة إزالة التفكير بهذا المبدأ.
على الرغم من أرجحية اختيار المملكة الدور الجديد على حساب التطبيع، فإن هذا الدور، إذا ما اختارته، لن يكتمل إلا بتبني القضية الفلسطينية بشكل كامل، ودعم المقاومة الفلسطينية بكل الأشكال، فلا دور ولا استقرار لأي دولة، أو للمنطقة عموماً، إلا بزوال هذا الكيان الغريب عن نسيج المنطقة، فهل تقوم بذلك؟
أحمد الدرزي ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً