رئيس للبيع ـ عدنان الساحلي

الجمعة 12 أيار , 2023 01:23 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

يتساءل اللبنانيون في حمأة الصراع الخفي والمعلن، خصوصاً بين قوى التدخل الخارجي: ألم يحن الوقت للبننة عملية إنتخاب رئيس للجمهورية، تكون قاعدة ومنطلقاً لإعادة تكوين السلطة، بعدما أنهارت الدولة ومؤسساتها وعطلت أدوارها ووظائفها، نتيجة فساد قوى الحكم والسلطة الطوائفية القائمة، المتحالفة مع أصحاب المصارف وكبار الأثرياء والمحتكرين؛ وسرقتها بالتحالف والتضامن، للأموال العامة والخاصة في البلاد؛ وتهريبها جزءاً اساسياً منها إلى الخارج، فبات الفراغ الرئاسي المستمر منذ أكثر من ستة أشهر، أمراً هامشياً لا يثير إهتمام اللبنانيين، أمام جوعهم وفقرهم وخشيتهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، الذين يتوهون في بلدان العالم، بحثاً عن عمل ومورد رزق، يعيلهم ويعيل أهاليهم. صحيح أن الإستحقاق الرئاسي يبرز بين وقت وآخر في تصريحات البعض، لكن التطورات تبيّن أن مطابخ الخارج هي التي تتولى المفاوضات والتنسيق، لصناعة رئيس على مقاسات قوى النفوذ الدولي، بوساطات عربية هي أقرب لعمل السماسرة منها إلى تصرف صاحب القرار.

وهذا الواقع ليس جديداً، فمنذ إنشاء منصب رئاسة الجمهورية، للمرة الأولى أثناء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1926، لم يعرف اللبنانيون إلا المفاجآت كل ست سنوات، يباغتون فيها بإسم وشخص، ربما لم يخطر على بالهم، أو أنه مغمور وليس متقدماً على غيره، فيجلس على كرسي الرئاسة من دون أي إعتبار لرأي الشعب، أو لمطالبه وأولوياته. كان المستعمر الفرنسي هو الذي يعيّن الرئيس في البداية. ثم تحول الأمر إلى "إنتخاب" معلب من قبل مجلس النواب. والمجلس بدوره حالة معلبة ومحفل مسوّر، لا يدخله إلا رجالات الإقطاع وكبار الرأسماليين وأتباع السفارات والقناصل. وتتحكم في تشكيله إعتبارات كثيرة، ليس أقلها عنصر المال والعصبيات وتدخل السفارات وحملات الإعلام الممولة.

وكثير من اللبنانيين وأصحاب الرأي، يشككون بشرعية إنتخاب القسم الأكبر من النواب. كما أن التأثير الخارجي على قرار وتوجهات 128 نائباً، أسهل بكثير من التحكم بالتصويت المباشر لملايين عدة من المقترعين. وعندما رحلت جيوش المستعمر الفرنسي عن لبنان؛ وقرر الأميركيون وراثة الإنتدابين الفرنسي والإنكليزي في المنطقة، أشعلت "ثورة" ضد فساد عهد الرئيس بشارة الخوري، لكن سياسة خلفه كميل شمعون الموالية للأميركيين، إصطدمت بالمد الناصري التقدمي والعروبي المنطلق من مصر جمال عبد الناصر، فكان عهد الرئيس فؤاد شهاب نتيجة توافق أميركي- مصري وليس نتيجة قرار لبناني. وهكذا على هذا المنوال، ما زالت تجري صفقات "صناعة" رئيس للجمهورية في لبنان بايادي خارجية.

وكلما اختلت التوازنات الإقليمية أو الدولية، يشهد لبنان خضة سياسية لا تخلو من إثارة العصبيات وإراقة الدماء. ويسعى بعض الخارج إلى تكرار ما جرى في إتفاق الدوحة عام 2008، أيضاً بغطاء عربي، فيما القرار الحقيقي أميركي. في الدوحة، يومها، فاحت رائحة الأموال التي وزعت على النواب والسياسيين، لشراء اصوات لإيصال رئيس "توافقي" إلى قصر بعبدا، هو قائد الجيش في تلك المرحلة. في تكرار ثالث لإجراء قد يكرس موقع قيادة الجيش، كمعبر الزامي للوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية في لبنان. لكن توافقية الرئيس العماد ميشال سليمان كانت مؤقتة، سرعان ما تبخرت، عندما اتخذ موقفاً تنكر فيه لعلاقة لبنان بسورية، عندما احتاجت سورية لمساعدة لبنان؛ وتجاهل الإتفاقات التي تربطه بها، نتيجة إنقلاب قطر على سورية. فقطر هي راعية إنتخاب سليمان وهي أحد أبرز الأطراف الممولة للحرب على سورية، التي أنتجت خراباً ودماراً فيها وتهجيراً لأهلها وسكانها. كما طاول إنقلابه الموقف من المقاومة، حيث وصف خطابات قادتها بـ"اللغة الخشبية".

وهكذا تأكد للقاصي والداني، أن رعاية إنتخاب رئيس الجمهورية من الخارج، هي عملية بيع وشراء، تنتج تبعية سياسية وولاء يتخطى الولاء للوطن. والرئيس السابق ميشال عون، قد يكون الوحيد الذي كسر نمطية تلك الرعاية الخارجية، بتفاهمه مع طرف لبناني قوي. وربما لذلك يرفض كثيرون تكرار هذه التجربة. لذلك خلفه الفراغ حتى الآن. وعون هو الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية، والخامس للجمهورية الثانية المنبثقة عن إتفاق الطائف. وهو الجنرال الرابع الذي جاء من قيادة الجيش إلى قصر بعبدا، حيث مقر رئاسة الجمهورية، بعد فؤاد شهاب وإميل لحود وميشال سليمان. وهناك من يسعى في الخارج والإقليم لتكرار "رعايته" لإنتخاب رئيس جديد، بالطريقة ذاتها، أي بتوكيل أميركي وبشراء ذمم النواب وتكريس الرضى الأميركي على مجيء هذا الشخص أو ذاك. فيتم إيصال "جنرال" خامس إلى بعبدا، يكون أسيراً لمن أوصله وانتخبه، في عسكرة للرئاسة، عاجزة عن مواجهة "أكلة الجبنة"، حسب وصف فؤاد شهاب لهم. والواقع الذي يتجنب كثيرون التحدث عنه، هو غياب صوت رئيس الجمهورية تجاه أحداث كثيرة؛ وتهميش دوره في استحقاقات هامة، لأن صلاحيات الرئيس ياخذها من المحاصصة الطائفية القائمة.

وأحد أسباب تعقد الأزمات حالياً، هو غياب دور وصلاحيات رئيس الجمهورية، التي تتيح له أن يكون حكماً بين السلطات. والأمر الطبيعي أن تكون للرئاسة دورها وصلاحياتها، شرط أن يكون الرئيس رئيساً لكل لبنان وليس لفئة أو طائفة. فيتم إنتخابه من الشعب مباشرة. وتخرج الرئاسة من التعليب الذي يمثله مجلس النواب في مسرحية الإنتخاب. وتتعطل أدوات التدخل الخارجي والفرض وشراء الذمم. ويشعر اللبناني أنه صاحب القرار في اختيار رئيسه، لأن إعادة القرار للشعب يمنع الإتيان برئيس مجهول وتابع للراعي والممول. بل يتم إنتخابه على أساس برنامج واضح والتزامات تجاه الشعب وليس تجاه السفارات. وهي خطوة لا بد منها حتى تتوقف مسيرة الإنهيار التي تشهدها الدولة بكل مؤسساتها.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل