مقالات مختارة
بناء على الأسئلة والاستفسارات التي وردتني من العديد من الأصدقاء حول دور السدود التركية المائية المقامة على نهري دجلة والفرات وغيرها من الأنهار الداخلية في المساهمة بحدوث الزلازل في تركيا، أجيب على هذه التساؤلات بتوضيح النقاط الآتية :
منذ مليون عام كانت مناطق ما بين النهرين، دجلة والفرات، عامرة وكانت ضفافهما وحوضهما المهد الأساسي للحياة وابتكار الزراعة المروية قبل حوالي 12 ألف عام. كما مارست الشعوب القديمة عبر الحضارات المختلفة من أيام السومريين صيد الأسماك والنقل النهري والتجارة البينية، وتتابعت الأنشطة البشرية الاقتصادية وبنيت آلاف المدن والقرى عبر آلاف السنين في حوضهما ، وما يزال بعضها حيّاً إلى اليوم.
لقد غيرت تركيا الوضع الطبيعي لهذه الأنهار من خلال بناء مئات السدود عليهما. فقد وصل عدد السدود في تركيا إلى أكثر من 850 سدا ، معظمها على نهري دجلة والفرات، أكبرها سد أتاتورك على نهر الفرات الذي يعتبر واحدا من أكبر السدود الركامية في العالم، وقد دشن في تموز/يوليو 1992 ؛ ويقع السد على نهر الفرات في محافظة أورفه على بعد 24 كلم من مدينة بوزرفا،ويخزن 49 مليار متر مكعب من المياه في بحيرته الصناعية الكبيرة جداً التي تصل مساحتها إلى 817 كم² .
ويلي سد أتاتورك من حيث الحجم سد كيبان حيث يحجز خلفه بحيرة صناعية بمساحة 675 كم². وهناك سد اليسو العملاق على نهر دجلة ، وحجم سعته التخزينية حوالي 21 مليارم3، ومساحة بحيرته 313 كم2. وسد كاراكايا مساحة بحيرته 268 كيلومترًا مربعًا ، وسد هرفانلي 263 كيلومترًا مربعًا .
وتبلغ القدرة التخزينية الإجمالية للسدود أكثر من 650 مليار متر مكعب.
أن بناء هذه السدود له تأثير كبير على الإقليم والبيئة في المنطقة كلها، وقد سبب مشاكل كثيرة للغاية لكل من سورية والعراق ، حيث أدت إلى التصحر والجفاف وتدمير الأراضي الزراعية، وعدم القدرة على توليد الكهرباء من السدود العراقية والسورية، ونفوق الأسماك والثروة الحيوانية، فضلاً عن الغبار وتلوث المياه بكل أنواع الملوثات ، وتصاعد ظاهرة الرياح الرملية، وحرمان البلدين من 40% من الأراضي الصالحة للزراعة، و بالتالي، أدى ذلك إلى تردي الأوضاع الاقتصادية ، وارتفاع نسبة البطالة، لكن الأخطر من كل ذلك هو النزوح الكبير للسكان وإحداث تغير ديموغرافي واسع يصعب ترميمه .
الخطر الزلزالي
من المعروف عالميا” أنّ إنشاء السدود الكبيرة، التي تحجز خلفها بحيرات مائية عملاقة يمكن أنْ تؤدي إلى توليد هزات أرضية وصلت في بعضها الى 6،5 درجة ، مثل زلزال سد «كوينا» في ولاية ماهراشاترا الهندية عام 1963. وقد لوحظ ذلك في العديد من مناطق العالم، مثل الهند والصين والولايات المتحدة الأميركية وروسيا والبرازيل وغيرها، وقد تحدثت عنها بشكل مسهب في كتابي عن الزلازل.
تعتبر تركيا من أكثر الدول تعرضاً للزلازل في العالم، بسبب نقاط التصادم بين الصفيحة العربية ومعها الصفيحة الافريقية في الجنوب والصفيحة الأناضولية في الشمال ، ووجود فوالق انزياحية عديدة فيها أهمها نطاق فوالق شمال الأناضول وفوالق شرق الأناضول وفوالق غرب الأناضول .
أن السدود التركية الأناضولية تقع في مناطق نشاط زلزالي مخيف، وهناك علاقة تفاعلية بين السدود والزلازل ، حيث أن تكوين عدد كبير من البحيرات الاصطناعية خلف السدود تولد نشاطاً زلزالياً إضافياً من خلال :
أ- تحميل القشرة الأرضية ما هو فوق طاقتها التحمليـة وحدوث تقعر سنوي في قاع البحيرات المتشكلة وراء السدود ، إذا زاد عن حده المسموح يسبب كارثة، وهذا يساعد ويفعّل نقاط الضعف والتصدعات في فوالق المنطقة، وخاصة فالقي الأناضول الشرقي والشمالي اللذين يمران بالمنطقة ،مع العديد من الفوالق الثانوية فيها.
ب-التأثير الآخر يأتي من تسرب المياه في جوانب البحيرات عبر الشقوق والصخور النفوذية إلى داخل الأرض، فتتسرب إلى الأحواض المائية الجوفية وتؤدي إلى عملية حت الصخور وتشكل الفراغات ،وخاصة في الصخور الكربوناتية وتمدد أو توسع في الكسور والتصدعات الموجودة في الأحواض وانزلاقها،ما يساعد في التسبب بحدوث زلازل قوية.
وفي الجهة المقابلة اذا حدث زلزال في المنطقة فإن ذلك يساهم في ضعضعة الصخور وزيادة الكسور والتصدعات في مناطق السدود التي يمكن أن تصل إلى حد انهيارها اذا كانت قريبة من مركز الزلزال أو متصلة اتصالا وثيقا بالصخور التي تحمل السد ، وهنا تقع الطامة الكبرى .
إذا انهار سد تركي أو أكثر من السدود العملاقة سيؤدي إلى دمار شامل لجزء من تركيا و لشرق سوريا وغرب العراق، ويصل الجدار المائي الطوفاني إلى الخليج العربي جارفا معه مدنا وقرى كاملة، لأن سد أتاتورك لوحده يخزن قرابة 50 مليار متر مكعب من المياه، وهذا يعادل الإيرادات المائية لعام كامل .. فتصوروا هول الكارثة .
لقد حذر الكثير من الباحثين الجيولوجيين في العالم تركيا من خطورة هذا الكم الهائل من السدود الضخمة في منطقة معروفة بنشاطها الزلزالي ، ولو نظرت الى صورة تركيا المجسمة من الفضاء ، فإنك تشعر من كثرة الفوالق فيها كأنك تنظر الى ظهر انسان مغطى بالجروح المتنوعة في مختلف الاتجاهات .
بعد زلزال 6 شباط (فبراير) ووسط مخاوف من انهيارات بالسدود بفعل الهزات اللاحقة، قامت السلطات التركية بفتح بعض السدود ،ومنها سد أتاتورك، لتخفيض كمية المياه فيه ، كما أفرغت السلطات مياه سد سلطان صويو في مالاطيا بشكل تدريجي حتى لا تشكل خطرا في تركيا ،كإجراء احترازي. ووفق خبراء فإن السدود التركية وإن لم تكن السبب المباشر في الزلزال فإنها ساهمت في زيادة قوته لدرجة أصبح معها مدمرا .
انطلاقا” من كل ذلك يجب على السلطات التركية أن تعود لرشدها وتخفف من كميات المياه الموجودة في هذه السدود ،وتعيد نهري دجلة والفرات الى مجراهما الطبيعي بالاتفاق مع حكومتي الدولتين في سورية والعراق، رأفة بشعوب الدول الثلاث في تركيا وسورية والعراق، وتحقيقا للأمن المائي والسلام في المنطقة قبل أن “يقع الفاس بالراس” .
د. محمد رقية ـ الحوار نيوز
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً