دور فرنسا في أوكرانيا.. رؤية مصلحية قومية؟

الثلاثاء 31 كانون الثاني , 2023 10:34 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

لا يمكن تصنيف الملف الأوكراني أنه الوحيد الحاكم لواقع العلاقات الروسية-الفرنسية، إذ إن التقدير الفرنسي لموقع الدولة صاحبة النفوذ العالمي التقليدي في النظام الدولي لا يرتبط بحيثيات الاتحاد الأوروبي، أو بتحالف غربي أسّس لهيمنة قطبية خلال أكثر من عقدين من الزمن، وإنما يرتبط أكثر بأجندة فرنسية تقليدية تعود بداياتها إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي. فالنظام الدولي الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن يناسب الرؤية الفرنسية، إذ إن التوجه الفرنسي في تلك المرحلة كان يستهدف كيفية المحافظة على الإرث الاستعماري الذي أسّست له الدولة الفرنسية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى.

 فالهيمنة على مساحات ودول كثيرة في آسيا وأفريقيا وحتى في أميركا الشمالية، مع ما يمكن تقديره من مزايا حققتها الدولة الفرنسية من خلال استغلال مقدرات هذه المناطق كانت دافعاً لرفض فرنسا الرؤية الأميركية التي افترضت ضرورة دعم حركات التحرر في المناطق الخاضعة للاستعمار؛ خوفاً من إمكانية التحاقهم بالمعسكر الشيوعي الذي تبنى سياسات دعم الشعوب على حساب الأنظمة المستبدة أو المستعمرة. ونتيجة لهذه الرؤية، برز الخلاف بين الطرفين الأميركي والفرنسي، ويمكن إدراج الموقف الأميركي من العدوان الثلاثي على مصر، بالإضافة إلى الادعاءات الفرنسية بمحاولة الولايات المتحدة الأميركية التدخل في الشؤون الفرنسية والأوروبية ضمن أهم أسباب الخلاف.

وضمن هذه الرؤية، لم تتوان الدولة الفرنسية عن الدفع في اتجاه توقيع معاهدة إنشاء جماعة الدفاع الأوروبية عام 1957. وإذا أمكن القول إن الدول الأوروبية الموقّعة لم تنظر إلى هذه المعاهدة على أنها موجّهة ضد حلف شمال الأطلسي، وإنما تم اعتبارها محاولة أوروبية طموحة لتحقيق تكامل على مستوى مؤسسات الحلف، بعيداً من أي اعتبارات مسبقة، فإن الدولة الفرنسية كانت ترى أن أي محاولة لتمتين رؤية دفاعية أوروبية مشتركة ستؤثر حتماً في موقع حلف شمال الأطلسي في أوروبا، بما يساهم في إعطاء الموقف فرنسي موقعاً متقدماً على مستوى الإستراتيجيات الدولية.

تنطلق السياسات الفرنسية في تعاطيها مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من معادلة تستهدف الحفاظ على السيادة والقرار الفرنسي، ومن تفضيل الآليات الأوروبية على الأطلسية. فالهزيمة الإستراتيجية التي لحقت بالدولة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية؛ نتيجة فشلها في مواجهة القوة النازية، وعدم قدرتها على الدفع في اتجاه ما يحقق مصالحها الإستراتيجية الدولية في المرحلة اللاحقة، دفعت نحو سياسة فرنسية تستهدف استقلالية في إستراتيجيتها النووية، والتركيز على البيئة الأوروبية، ثم تطورت بعد ذلك حين أعلن الرئيس، الفرنسي شارل ديغول، انسحابه من قيادة حلف "الناتو" عام 1966، مبرراً ذلك بخشيته من انجرار فرنسا إلى الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وتفادي هيمنة الولايات المتحدة على القارة الأوروبية.

وكانت الدولة الفرنسية قد بررت قرارها بالعودة إلى القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي وفق قناعة مفادها ضرورة تعزيز النفوذ الأوروبي في الحلف بعدما تعذر تفعيل آلية أوروبية مستقلة بسبب تفضيل معظم دول أوروبا الشرقية وبعض دول أوروبا الغربية لمسارات "الناتو" كضامنة للأمن على حساب المسار الأوروبي. 

لكن، في الواقع، يمكن القول إن تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي، وبروز ما يسمّى "ظاهرة الإرهاب الدولي"، بالإضافة إلى فشلها في استمالة الحلفاء الأوروبيين إلى جانبها كانت من الأسباب المباشرة لعودة فرنسا. لكن، على الرغم من هذه العودة، لم تتشكل لدى القيادات السياسية الفرنسية قناعة بنهائية تقبل خيارات "الناتو"، إذ كانت النخب الفرنسية تعبّر دائماً عن الرغبة في تفعيل آلية أوروبية مستقلة. وإذا كان من الواقعي القول إن الدولة الفرنسية لم تنجح في استنباط قرار أوروبي مستقل، فإن الاتجاه الذي سلكته منذ عودتها إلى قيادة الحلف يؤكد عدم نهائية الانتماء إلى "الناتو" بتوجهاته الأميركية.

فالعلاقات الروسية-الفرنسية، على سبيل المثال، لم تكن دائماً مطابقة لتوجهات "الناتو"، إذ إن الاجتماع الذي عقد في العاصمة الفرنسية تحت عنوان "مجلس التعاون حول شؤون الأمن"، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بين وزيري خارجية ودفاع روسيا ونظيريهما الفرنسيين قد هدف إلى تأكيد تمسك كل من روسيا وفرنسا بتطوير الحوار السياسي المبني على الثقة المتبادلة، وإلى تعزيز العلاقات الفرنسية-الروسية، وأيضاً الأمن الأوروبي والعالمي. وإذا تعمقنا في خلفيات هذا اللقاء، فإن عدداً من الأحداث يؤكد أن المسعى الفرنسي لا يتوافق مع أجندات "الناتو". فاللقاء الذي يمكن تصنيفه كرد فعل على اتفاقية "أوكوس" التي أفشلت صفقة الغواصات الفرنسية-الأسترالية، واستثنت فرنسا من التنسيق الأمني الأميركي-البريطاني مع بعض دول الإندوباسيفيك، بالإضافة إلى محاولة البحث عن الأمن الأوروبي، بعيداً من الخيارات الأميركية التي لم تأخذ في الاعتبار مخاطر انسحابها العشوائي من أفغانستان على الأمن الأوروبي يؤكد جدية المسعى الفرنسي المستقل.

 من ناحية أخرى، برز في الفترة الأخيرة ملف جديد أرخى بثقله على سياسة فرنسا الخارجية. فاهتزاز الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي من مالي إلى بوركينا فاسو يؤكد تراجع مكانة فرنسا على المستوى الدولي، وترهل مشروعها الساعي للحفاظ على هذه المنطقة كمسبب أساسي لموقعها في مصاف القوى العظمى. إن خسارة الدولة الفرنسية لنفوذها في دول الساحل الأساسية، لا سيما مالي وبوركينا فاسو، والحديث عن مسعى روسي لإيجاد موطئ قدم في النيجر، سيجعلان الدولة الفرنسية تواجه معضلة الاختيار بين اتجاهين أحلاهما مر.

فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد نجحت في عرقلة المسعى الفرنسي للاستقلال الأمني والعسكري، وفق آلية أوروبية ترتبط بحاجات أوروبا فقط، عبر تأكيد التزام دول أوروبا بآليات "الناتو"، واعتباره الخيار الوحيد القادر على ضمان حمايتهم في مواجهة الأخطار الخارجية، خصوصاً بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن الدولة الروسية لم تأخذ في اعتبارها ضرورة تفهم حاجات فرنسا في الساحل الأفريقي، حيث ذهبت لتقدم نفسها بديلاً من المستعمر الفرنسي، مستفيدةً من عدة عوامل تتعلق بدعمها لحركات التحرر عبر التاريخ، وموقفها المتمسك بمفهوم السيادة بشكله التقليدي، بالإضافة إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت مبررات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

لكن الواقعية الفرنسية ويقينها بعدم قدرتها على التزام خيار مستقل عن كلا الطرفين الروسي والأميركي في أوكرانيا، نتيجة التزام أكثر الدول الأوروبية بخيارات الأطلسي في دعم أوكرانيا، قد شكلت دافعاً لتفضيل المحافظة على حد أدنى من التماسك الأوروبي، والتزام مخططات الأطلسي، بل إن الدولة الفرنسية قد تخطت في دعمها لأوكرانيا ما كان يعدّ واجباً أدبياً لدى الدول الأوروبية. 

وإذا عدنا إلى بدايات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حيث كان التواصل الفرنسي -الروسي شبه يومي لإيجاد حل سلمي للأزمة في أوكرانيا، أو ما قبلها حيث كانت فرنسا تجاهر بسعيها لتحقيق استقلال أمني أوروبي، فإن ذلك سيدلل على انعطافة فرنسية لا يمكن أن نحللها إلا من خلال رؤية قومية مصلحية تتعلق بالأهداف الإستراتيجية الفرنسية في أوروبا والعالم، بعيداً من وهم الالتزام بـ"الناتو" وقراراته. 

 

وسام إسماعيل ـ الميادين

 

   إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل