مقالات مختارة
في كل مرة اشاهد لقاءات للنواب والزعماء الموارنة في بكركي بدعوة من البطريرك الماروني بشارة الراعي لا أعرف لماذا تعود بي الذاكرة إلى بداية السبعينات، وقد عاد يومها والدي وديع، ابو طنوس، من قطاف الزيتون في قرية "الدوق" البترونية الملاصقة لدير ميفوق، وكان على غير عادته متعكر المزاج، إذ أنه كان كل عام يأخذ عطلته السنوية ويخصصها للذهاب الى الدوق لقطاف الزيتون ويعود فرحاً بمحصول الزيت الذي كان يتفاخر بجودته، وفي هذه المرة عبٌَر عن مرارته وتشاؤمه بالمستقبل والسبب حسب ما أوضحه أنه كان يسمع في الليالي أصوات إنفجارات بعيدة، وعندما أستوضح الأمر قيل له إن أفراداً من ميليشيا حزب الكتائب يتلقون التدريبات على الرماية بالمدفعية في جرود البترون على يد ضباطٍ من الجيش اللبناني.
لم تسنح الظروف لوالدي، وهو العامل في مرفأ بيروت، والمتخصص في الإنشاءات المعدنية واللحام، أن ينهي المدرسة أو أن ينال أي من الشهادات، إنما تعطشه للعلم والمعرفة دفعه لجعل الكتاب صديقه الدائم، وكان نهمه للقراءة والإطلاع يزداد مع مرور الزمن، حيث يمضي أمسياته وهو جالس في كرسي "الشيز موريس" والتي كنا نطلق عليها اسم كرسي البابا، مترافقاً مع كتبه التي لم تكن لتنتهي، بحيث يغفو من شدة التعب والكتاب بين يديه، ولا ينهض الى السرير الا بعد تكرر الطلب اليه من قبل والدتي لانهاء القراءة والخلود للراحة. وبحكم عمله في المرفأ، كان على إحتكاك يومي بالحياة، وبنهرها الدافق، وقد شكلت حركة الناس عبر هذا المعبر الاساسي في البلاد الجانب الأخر لكتاب المعرفة الذي نهل منه في النهار، وهو برغم انه كان شغيلاً كادحاً تركز همه على تأمين حياة لائقة ولقمة نظيفة لعائلته، تميز بنظرة ثاقبة ورؤيوية، وصاغ في ذلك الوقت وقبل بداية الحرب الأهلية خلاصة لما سيؤول إليها الصراع في لبنان، مفادها أنه لا مستقبل للبنان، ذلك "اللبنان" الذي عرف الإزدهار والبحبوحة والإستقرار، مردداً امامي جملته: أننا قادمون على أيام سوداء سنشتهي معها كسرة الخبز.
وبمقدار ما تميز ابو طنوس، ذلك العامل الذي أجبرته الحياة أن يترك القرية باكراً وأن يذهب الى المدينة بحثاً عن لقمة العيش وعن السعادة الموعودة، بثقافة موسوعية سياسية وتاريخية وفلسفية، فإن لقمة العيش الكريمة والنظيفة وشروط الحياة اليومية المُعاشة كانت دائماً بالنسبة له هي نقطة الارتكاز في الحكم على الأمور، لينطلق في تحليلاته رابطاً بين التاريخ والحاضر وبين الصراعات على المستويات العالمية، الأقليمية والمحلية. ولقد تركت واقعة تدرب ميليشيا الكتائب على الرماية بالمدفعية على يد ضباط من الجيش تأثيرها العميق عليه، (وهذا ما ظهر لاحقا حيث تأكد دور مرجعيات اساسية في الكنيسة المارونية في الانخراط بالتحضير للحرب الاهلية).
وهو من جهة ربط هذه الواقعة بحديث دار بالصدفة مع أحد السواح الذين دخلوا عبر المرفأ بجواز سفر فرنسي، وتبين أنه يهودي من وادي أبو جميل غادر البلاد في الستينات، ومما قاله ذلك اليهودي لوالدي خلال حديثه معه إننا ( والمقصود إسرائيل) سنجعل من بيروت دمارا، ومن جهة أخرى بذلك البذخ الذي ميز حياة اللبنانيين وكأن الأموال تتساقط عليهم كالأمطار وهم لا يعيرون لها أي قيمة، وقد سبق ذلك أن أقدم الصهاينة على تدمير أسطول طيران الشرق الأوسط للخطوط الجوية اللبنانية. أن يتدرب اعضاء حزب الكتائب أنذاك على السلاح في وقت كانت المارونية السياسية تهيمن على مقدرات البلاد، فان ذلك وفق معايير والدي يؤشر الى أننا قادمون على ما لن تحمد عقباه، خصوصاً بعد وفاة الرئيس عبد الناصر وما تلى ذلك لاحقاً بعد فترة قصيرة من إقدام السادات على تطهير الجيش وطرد الخبراء السوفيات.
ولأننا كنا نجاهر برأينا التقدمي والعروبي، وضع الكتائب منزلنا تحت المراقبة الدائمة، ومع الارهاصات الاولى للحرب الاهلية، استغلوا غيابنا في ضيافة الجيران ليطلقوا الرصاص على باب المنزل كرسالة تحذير بالنار بعد تبليغنا عدة رسائل سابقة، وأبلغنا عبر وسطاء بأنه علينا الحضور إلى بيت الكتائب وتقديم صك الطاعة والتخلي عن قناعاتنا السياسية. كنتُ حينها في الثامنة عشرة من عمري وانا الاكبر بين الاولاد، وكان نشاطي الطلابي والسياسي مزعجاً لليمينيين، وكان الوضع صعباً والتحدي كبيراً والخيار خانقاً بين حماية المنزل جنى العمر او التضحية به مقابل المبادىء والكرامة، وفي تلك اللحظة المصيرية وقفت والدتي ام طنوس مدعومة من والدي كجبل لا تهزه الرياح وقالت: فشروا هولاء الكلاب ان يذلونا، لن نفرط بمبادئنا وكرامتنا، اذا ذهب المنزل نبني منزلاً بديلاً ولكن، اذا خسرنا كرامتنا فلن نستعيدها ابداً، وكان القرار بعدم الذهاب الى بيت الكتائب والتذلل بالاعلان تخلينا عن خياراتنا الوطنية والانضواء تحت جناحهم.
وبعد انقضاء حوالي الاسبوع وقد تبلغوا اننا رفضنا تنفيذ مطلبهم حاصروا المنزل استعداداً لاقتحامه وتصفية العائلة بداخله، ونجحت العائلة بالخروج تحت جنح الظلام من الحصار في ثياب النوم بفضل مساعدة صديق للعائلة في قوى الامن الداخلي إصطحب معه قوة عسكرية أخرجت العائلة من المنزل المحاصر بدايةً الى منزل خالي في حمانا ولاحقاً الى منزل جدّيَ في ديرميماس، حيث تعرضت لاحقاً لتهجير ثانٍ بنتيجة تشكيل ميليشيا ىسعد حداد المتعاملة مع الصهاينة.
ولم نكن الوحيدين، بل كانت تلك البداية في تصفية المناطق "المسيحية" باتجاه النقاء الطائفي والسياسي، العملية التي طالت عشرات الالاف من "الأخر" غير المرغوب فيهم، وارسلت ميليشيا الكتائب الرسائل الدموية الى كمال جنبلاط عبر قتل شقيقته، وحاولوا اغتيال العميد ريمون أده غير مرة مما اضطره لمغادرة المنطقة، وتبين أن الوحش الذي توجس منه والدي لم يكن فكرة إفتراضية، إنما كان مشروعاً حقيقياً تسبب بموت عشرات الألاف وبخراب مدن وقرى وأحياء، وبعمليات تهجير جماعية، وأن شعار الدفاع عن لبنان مرَّ عبر دماء الاف اللبنانيين، ليتقزم ويصبح الدفاع عن المناطق المسيحية، وكان عليه ان يمر عبر سلسلة من المجازر، من أهدن إلى الصفرا الى عين الرمانة، الى خطف رفاق السلاح وتعذيبهم في أقبية الكرنتينا والذهاب بهم أحياء الى عرض البحر وتثقيلهم بالحجارة ورميهم طعاماً للأسماك، وترك لنا الشهود رواياتهم، فكان منهم كتاب مراسل الواشنطن بوست جوناثان راندل: "حرب الألف سنة حتى أخر مسيحي، أمراء الحرب المسيحيون والمغامرة الأسرائيلية في لبنان"، وكتاب ريجينا صنيفر: "ألقيت السلاح، إمرأة في خضم الحرب اللبنانية"، هذا القليل من روايات المغامرات، والتي أخبرني والدي بأنها بانتظارنا، وأن الآتي من الأيام سيشهد الأسوأ مما نعيشه، وبقي حتى رحيله يردد بأن مغامرات الموارنة، وهو يقصد زعماء الموارنة، لن تبقي حجراً على حجرٍ. مشهد زعماء الموارنة في بكركي المتكرر بدعوى ايجاد توافقات "مسيحية" على غرار تلك "الاسلامية"يثير الشفقة كما على المؤسسة الدينية كذلك على المرجعيات السياسية للموارنة، هو يذكر بأحداث الفيلم السينمائي: الأمبراطور الأخير عن أخر أباطرة الصين، حيث الماضي العظيم قد رحل من غير رجعة، والعجز صار سمة الحضور. الحضور، من السياسيين والكنسيين، يهرولون لنتش ما تبقى من مغانم الدولة، ولا أحد منهم يرغب ان يصل الأخر الى خط النهاية، كل متسابق يمسك بالاخر لمنعه من التقدم، ويراهن بان السباق سيكون من نصيبه هو، وهكذا تستمر اللعبة، فيما الدولة لم يبقَ منها ما يستحق أن يؤكل، والصلاة في هكذا حالات تصبح الملاذ الأخير للعاجزين.
لقد جرب زعماء الموارنة التقسيم، كما غيرهم من أمراء الحرب، وفشلوا، وجربوا الإستعانة بالخارج: سوريا، إسرائيل، المتعددة الجنسيات، وانهزموا، وبالرغم من أن الطائف كرس المناصفة، فان وقائع الحياة هي من يفرض المعادلات السياسية، ومن قال انه على المسلمين الذين يوازي عددهم ضعف عدد المسيحيين أن يقبلوا بالمناصفة، وبأي منطق عليهم قبول ذلك؟ الجشع هو ميزة كل الزعماء الطائفيين، وشهية الزعماء الموارنة لا تقل جشعاً، والمؤسسات المارونية تجني الملايين من المدارس والجامعات والمستشفيات والأديرة والأراضي ودور العجزة والخ، والبطريرك لا يخجل بمطالبة الدولة بتسديد حقوق الاساتذة في المدارس الكاثوليكية، ويطلق مواقف سياسية تلاقي المشاريع الغربية الامبريالية في منتصف الطريق، في حين ان ثروات زعماء الموارنة المكدسة في المصارف تم تهريبها الى الخارج مثل اموال كل التحالف الحاكم، وبالمقابل، تزداد أوضاع الناس العاديين صعوبة في تأمين لقمة العيش، وتغطية نفقات الحياة، ولا يجد المسيحيون من مخرج سوى الهجرة، والرهانات التي بناها زعماء الموارنة على الغرب ذهبت أمام مصالح الدول أدراج الرياح، والكذبة التي اطلقها أحد منظري البرجوازية ميشال شيحا، ما زالت المؤسسة الدينية والسياسية تروجها، وبين الشعار والواقع تزداد الهوة إتساعاً.
إن توقعات ابو طنوس، ذلك العامل المثقف الموسوعي الذي مضى على رحيله ثلاثون عاماً، هي على قيد التحقق، ولن يكون بالبعيد ذلك اليوم الذي ستُطوى فيه صفحة الموارنة في لبنان على غرار نهاية الامبراطور الأخير. والمنفذ الوحيد المتبقي للنجاة في ظل المتغيرات الكبرى في المنطقة هو بالذهاب الى معركة بناء وطن يستند الانتماء اليه الى مقاييس المواطنة في تخطٍ للانتماءات الطائفية وتتحدد وظيفته في مشروع تكامل اقتصادي عربي بوابته سوريا. ويبدو ان المسافة لتحقق هكذا مشروع هي طويلة وستكون مليئة بالالام والدماء والدموع على حساب الناس الكادحين المفقرين، المنهوبين والمُذلين.