أقلام الثبات
يخطىء من يظن أن لبنان لا يسير وفق خطة إقتصادية ثابتة المعالم وواضحة الرؤى، لكن المطلوب أن لا يمسك المواطن طرف الخيط فيها، فلا يدرك ماهيتها ولا مسارها ولا محط رحالها.
ومن يتابع محطات الأزمة الإقتصادية الناشبة أظافرها بأعناق اللبنانيين، يكتشف أن ما قامت به الحكومات السابقة وما تقوم به حكومة نجيب ميقاتي "المستقيلة"، هو خطة إقتصادية متكاملة، يتم فيها تنفيذ كل ما إشترطه صندوق النقد الدولي على لبنان، "لإخراجه من أزمته المالية" بإقراضه بضعة مليارات من الدولارات، لا تسمن ولا تغني بلداً ينوء تحت ديون تفوق المائة مليار دولار، سببها الفساد وسرقة المال العام والهدر المقونن وعجز، دفع المصارف والأثرياء وأصحاب النفوذ، إلى تهريب أموالهم إلى الخارج، على حساب أموال المودعين وحقوقهم، التي لا يدافع عنها مسؤول؛ ولا يراجع فيها قضاء؛ ولا ينفذ فيها قانون؛ ولا تحترم تجاهها عقود مبرمة بين المودع وأصحاب المصارف، في إبتزاز مخطط ومنظم لإجبار اللبنانيين على القبول بما لا يقبلون به في ظروف صحية وطبيعية.
وها هو رئيس حكومة تصريف الأعمال المستقيلة، نجيب ميقاتي، يؤكد في افتتاحه فعاليات "منتدى بيروت الإقتصادي 2022 "الذي ينظمه إتحاد المصارف العربية، في بيروت، أن "لا مخرج للأزمة الاقتصادية النقدية الراهنة، من دون اقرار الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، بما يؤمن تدفق مداخيل بالعملات الأجنبية الى لبنان". هذا على الرغم من إدعاء بعض المسؤولين، برفضهم لشروط صندوق النقد المجحفة بحق الفقراء ومحدودي الدخل، لأنها تحاول حل الأزمة على حسابهم ومستوى معيشتهم ودخلهم، الذي بالكاد يكفيهم لسد الرمق، في حين أن تنفيذ شروط الصندوق يتم بنجاح غير متوقع من أصحاب القرار في السلطة.
فشروط صندوق النقد اختصرها الخبراء بخمسة عناوين، كمدخل لما يسمى "الإصلاح الشامل" وهي:
1- تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وهذا حصل بالفعل، بعدما تخطى سعر صرف الدولار في سوق المضاربات 40 الف ليرة. ويتم تباعاً رفع سعر دولار صيرفة، الذي إبتدعه حاكم مصرف لبنان. وكذلك يجري رفع سعر الدولار الجمركي. وما يجري حالياً هو سعي لجعل السعر موحداً ومحرراً وفق سعر العرض والطلب، بعدما إستوعب الناس الصدمة باقل قدر من ردود الفعل. وباتت جميع السلع والرسوم والخدمات، خارج سعر 1507 ليرات للدولار الواحد. بما فيها الخبز والطحين والمحروقات والأدوية.
2- رفع الدعم عن الاستيراد والسلع والخدمات. وهذا أنجز كما ورد أعلاه، على الرغم من معاناة اللبنانيين وعجزهم عن مواكبة الإرتفاعات الهائلة في أسعار حاجياتهم. علماً أن ذلك يتم بقساوة لم يصل إليها صندوق النقد، الذي إقترح دعم الناس بالأموال ليس دعم السلع. فجرى رفع الدعم من دون دعم الناس.
3- تقليص القطاع العام وإعادة هيكلته. وهذا مربط الفرس، الذي يتجنبه المسؤولون، فمعظم الموظفين، خصوصاً الكبار منهم، هم أزلامهم وأتباعهم، فكيف يرمونهم في الشارع ويخسرون تأييدهم وشعبيتهم. ولكن عند الساسة اللبنانيين لكل داء دواء، فاللعب على سعر الصرف والتحكم بالرواتب خفض تكلفة القطاع العام إلى نحو النصف وأكثر. والكتلة النقدية للرواتب والأجور والتعويضات، تراجعت بعد ارتفاع سعر صرف الدولار. لكن هذا يعتبر حلاً آنياً، لأن المطلوب وفق خطة صندوق النقد صرف حوالى ثلث عديد موظفي الدولة (100 ألف موظف من أصل 300 ألف). وهناك 96 مؤسسة عامة اتُفق على إقفالها في الحكومات المتعاقبة، لكن قرار البتّ بها وضع في الأدراج، بانتظار الفرص المناسبة.
4- خصخصة الكهرباء. وهذا الأمر يسير وفق خطة ممنهجة، عبر تعويد الناس على دفع فاتورة باهظة لأصحاب المولدات. ثم التمنن عليهم بتدفيعهم نصف الفاتورة وهي باهظة أيضاً، لصالح كهرباء الدولة.
المهم هو وقف دعم الدولة للكهرباء وجعل سعرها محرراً وخاضعاً لسعر السوق، بغض النظر عمن ينتج الطاقة، أهو مؤسسة رسمية أم قطاع خاص. وهذا الأمر يطلب صندوق النقد تعميمه على كل القطاعات ذات الطابع الإنتاجي، مثل الاتصالات والمياه والإنترنت والطيران والريجي. وهو أمر ينفذ خطوة خطوة، فها هي مؤسسات المياه رفعت قيمة إشتراكاتها لمتر المياه من 366 الف ليرة إلى 983 الفاً. والاتصالات سبقتها وهلم جرا.
5- إعادة هيكلة القطاع المالي. وهي جارية على قدم وساق؛ وسط تمثيلية ينفذها مجلس النواب، بادعاء الخلاف على بنود "الكابيتال كونترول"، بعد خراب البصرة؛ وبعد أن قام المتمولون والنافذون وأصحاب المصارف، بتهريب الثروات التي نهبوها من جيوب اللبنانيين إلى الخارج. وسط فرض أصحاب المصارف قرارهم برفض هيكلة مصارفهم، بتغطية من كبار السياسيين والوزراء والنواب، أي شركائهم في ملكية تلك المصارف والحامين لإرتكاباتها بحق المودعين.
هي فوضى منظمة تمسك بأعناق اللبنانيين، بدأت منذ أن أغرقت الحريرية السياسية لبنان بالديون، بناء لخطة أميركية ـ سعودية لجر لبنان رغماً عن شعبه، للتفاوض والتطبيع مع العدو "الإسرائيلي". وقديماً، كان يتهم اليسار العالمي بانه ينفذ خطط الفوضى المنظمة، لزعزعة أسس الأنظمة الرأسمالية، من ضمن معارك الحرب الباردة التي ما زال العالم يدفع أثمان مواجهاتها.
لكن اليوم وبعدما أصبح معظم مثقفي اليسار موظفين عند كبار الرأسماليين، ينفذ الرأسماليون اللبنانييون فوضى منظمة بحق فقراء لبنان ومحدودي الدخل فيه، لتحميلهم عبء الأزمة التي إفتعلت لحشر لبنان في زاوية القبول بالشروط السياسية والسيادية والمالية، المفروضة عليه، ليكون عنصراً زحافاً في طابور الأنظمة والشعوب العربية الخاضعة للأمر الواقع "الإسرائيلي" وللإملاءات الأميركية، من ضمن الحروب الباردة والحارة، التي ما زالت ناشبة بين الإنسان المتحضر، الذي يسعى بجهده وتعبه إلى تأمين حاجاته الحياتية، في وطن آمن؛ وبين الإنسان المتوحش الجشع، الذي يعتدي على حقوق الآخرين ويسرق ثروات الشعوب والدول الضعيفة ويتحكم بمصائرها.