مقالات مختارة
لقد عبث الاغتراب الفكري والتكوين المصطنع للبنان ونظامه بطريقة التفكير والمفاهيم و بفهم وكتابة التاريخ، فأخذت جميعها بالدعوة للالتحاق الفكري والمعيشي بالغرب ومارست “تبييض” وتلميع صيغة التكوين اللبنانية تحت شعارات وصفها برسالة وانموذج لحوارات الحضارات والاديان وصلة الوصل بين الشرق والغرب الخ ….
هل هذا صحيح ؟؟ وماذا يعني ذلك ؟؟ ولماذا هذا الدجل الفكري والتاريخي ؟؟؟
الاجابة المفصلة على هذه الاجوبة تحتاج الى مئات الصفحات، الا انني سأعطي بعض الدلائل والعناوين والمؤشرات لإظهار الاغتراب الفكري الذي سمح بالوصول الى ما نحن فيه من ازمة انهيار خلقي وسياسي واقتصادي واجتماعي للدولة اللبنانية، وصولا الى وضوح ازمتنا والاشراف على كيف يمكن ان نرى المستقبل وكيف نذهب اليه ….
١-يجب وقف كذبة وكأن المسيحيين هم اشبه بجالية غربية ،وأنهم ابناء حضارة مختلفة او شبه غربية !!!! فالمسيحيون هم ابناء هذه المنطقة ،والموارنة جاؤوا من منطقة حمص ولم يأتوا لا من فرنسا ولا من ايطاليا ولا من بريطانيا .. وهذه المنطقة كان يسكنها الغساسنة قبل هجرات اسلامية وقبل تحول في الديانات من قبل قبائل وعائلات غسانية … كما ان السنّة والشيعة لم يأتوا من الصين او الهند، بل هم ابناء هذه المنطقة، وكان السنّة يسكنون المدن، وكان الشيعة يسكنون في كسروان والبقاع والجنوب قبل تغيير التمركزات الطائفية لا حقا وتغيير الاديان والطوائف من قبل قبائل وعائلات لبنانية بفعل الاضطهاد الاستعماري المتنوع …من هنا نرى مثلا عائلات من طائفة تحول بعضها الى طائفة اخرى ..والمبكي ان فرعي العائلة يتميز كل فرع منهما بتعصب لطائفته، وهو تعصب في افضل صفاته يمكن وصفه بالقبلي … ويحلو للبعض ان يسميه حوار اديان او حوار حضارات ؟!
٢-يجب انهاء اكذوبة ان لبنان بلد نظامه ديموقراطي … فعندما يتميز بلد بالحروب الاهلية المتكررة ،فهذا اكبر دليل على انتفاء تمتعه بديموقراطية حقيقية .والصحيح ان في لبنان نظاما فريدا هو ديموقراطية طائفية تعطيلية إلغائية تتميز بحرية واسعة تحصنها الطوائف وتخضع لتوازناتها بغض النظر عن نصوص القانون والدستور .. واي حديث عن أن هذا النظام هو استتباع للنموذج الغربي هو كلام في الشكل، لأن الاستتباع يطال الفكرة والتنفيذ يطال التكوين الكياني ..
٣- يجب انهاء اكذوبة علاقة لبنان بالعروبة والنقاش ما بين انه بلد عربي او “بلد ذو وجه عربي”، لأن لبنان هو بلد طائفي استتباعي لطوائفه بأوجه عدة لا يوحدها ما جاء في الدستور .. فالذي رفض ان ينص الدستور ان لبنان بلد عربي على اعتبار ان له وجها حضاريا غربيا هي الطائفة عينها التي ابتدع مفكروها فكرة العروبة، ولكن ليس لأنها مؤمنة بها ،بل لمواجهة الإسلام العثماني …وعلى الطريقة اللبنانية دائما، الدجل الفكري مسموح لمصلحة الطائفة والاستتباع السياسي وليس لمصلحة الفكر والوطن ..
وبعد ان تحول الاستقطاب الفكري لفكرة العروبة الى بوصلة فلسطين بعد الاحتلال الاسرائيلي المدعوم غربيا، عاد الاستتباع الخارجي ليكون المفصل في المواقف فيرفض المستتبعون للغرب وصف لبنان ببلد عربي على الرغم من انهم هم صانعو فكرة العروبة ..
وبعد ان بدأت دول عربية بالتخلي عن القضية الفلسطينية لصالح التطبيع مع العدو الإسرائيلي، عاد المستتبعون للغرب الى المناداة بعروبة لبنان، ولكن على اساس انتمائه الى محور التطبيع، وصار المنادون بتحرير فلسطين ليسوا عربا، وانما هم مستتبعون للفرس كون الجمهورية الاسلامية في ايران التزمت تحرير فلسطين كهدف اساسي انطلاقا من موقف ايديولوجي ثابت..
وكل ذلك يبين ان الاستتباع المصلحي السياسي احيانا والمادي احيانا اخرى ،هو المحرك الأساس للتموضع الطائفي .وقد دخل مؤخرا العامل الايديولوجي كعامل اساس في موقف الشيعة عموما تأثرا بالإمام الصدر الذي وجه البوصلة أيديولوجيا وكذلك سياسيا نحو فلسطين ،حين قال إن “التعامل مع اسرائيل حرام “.وتعزز هذا الموقف بفعل ما عاناه الجنوبيون من العدوانات الاسرائيلية وصولا الى الاحتلال المباشر والشريط الحدودي، مرورا بوصول القوات الاسرائيلية الى بيروت في العام ١٩٨٢ ونشوء حزب الله المكوّن على اساس ايديولوجي سياسي وتحول الى القوة الاساسية للمقاومة اللبنانية والرادعة للعدو الصهيوني…
٤- ان الاستتباع للغرب لم يكن ابدا استتباعا لا على اساس الهوية ولا الفكر، بل كان دائما استتباعا مصلحيا حيث كانت وما تزال المصلحة هي المعيار .ويؤكد ذلك ان المستتبعين للغرب وافقوا على استقبال المهجرين الفلسطينيين طمعا بأموال منظمة التحرير الفلسطينية، ثم وافقوا مؤخرا على استقبال المهجرين السوريين استجابة للغرب وطمعا بالاموال الموعودة…اما الطائفة السنيّة التي كان استتباعها العروبي قناعة تكوينية فاستمرت حتى استطاع الغرب ان يُحدث التعصب المذهبي ويُظهر وكأن تحرير فلسطين قضية فارسية شيعية ،فتحول موقف جزء من السنّة الى استتباع عروبة التطبيع … في حين ان الطائفة الشيعية من الاساس حافظت على الاستتباع العربي- الفلسطيني حيث كان الجمهور الشيعي ناصريا ومعاديا للنظام الايراني الذي كان حينها صديقا للكيان .. كما كان هذا الجمهور،وكما يصفه كثيرون، خزان الحركة الوطنية التي كانت تلتزم القضايا السياسية التقدمية والتحرر الوطني و تحرير فلسطين ..
٥- انطلاقا من كل ذلك يتبين النظام اللبناني الاستتباعي بطوائفه المتباعدة استتباعيا وتأثيرات المصالح على افكارها والعكس ، بحيث يصعب في هذه الحال توقع انموذج لوطنية لبنانية في ظل الوضع الحالي للمنطقة وتوازناتها التي مازالت تفرض قواعدها منذ تشكل هذه المنطقة وفقا لاتفاقية سايكس بيكو … وكما في السياسة كذلك في الاقتصاد والمجتمع والثقافة، فالاستتباع وتوازناته واقع في السياسات وفي طريقة انشاء المؤسسات وطريقة عملها بحيث نستمتع بنظام الخدمات لفظيا في حين يتبين ان الخدمات الطائفية اهم من نظام الخدمات المالي والاقتصادي . وهنا ايضا يصعب تصور انموذج اقتصادي وطني للبنان خارج نظام التبعية وانعكاسات الحصارات والهيمنة ،اذا لم يحصل توازن جديد في المنطقة يفرض قواعد جديدة سياسية واقتصادية …
٦- ولابد من النصيحة هنا ان من يحلم بأن يعود لبنان بوابة الدول “العربية” للهيمنة الغربية سياسيا واقتصاديا، عليه ان ينسى هذا الحلم لانه بات غير ممكن حتما …
انطلاقا من كل ذلك نحن امام واقع انهيار اخلاقي وسياسي واقتصادي لدولة الاستتباع ، والأمل بأن يشكل استخراج الغاز والنفط انقاذا للصيغة اللبنانية ولدولة الاستتباع هو أمل وهمي للاسف ، لأن ما اوصلنا الى هنا ليس قلة الموارد .فقد شحدنا كثيرا وطارت اموال الشحادة، واغتربنا وجنينا الثروات وحولناها الى ودائع واستثمارات في لبنان وطارت الودائع وانهارت الاستثمارات ،وعلينا ان ننتبه إلى ان المصارف كانت تحتوي ودائع قيمتها ١٨٥ مليار دولار ،وهي اكبر بكثير من قدرة لبنان على الاستيعاب، وكان استثمار جزء منها في اي دولة بحجم لبنان تحمل معنى ومضمون دولة، كافيا لتحويل هذه الدولة الى قوة سياسية واستقلالية وسيادية واقتصادية واجتماعية وعلمية وبشرية رائدة ….الا ان كل ذلك سقط وانهار تحت وطأة الأزمة التكوينية للبنان ونظام الاستتباع ، ولم تنفع معها كل عمليات “تبييض” هذا النظام والدجل الفكري …
ولا بد من التأكيد في الخلاصة على ثلاثة مفاصل اساسية:
الاول – ان النظام اللبناني المنهار على جميع المستويات هو من اقوى الانظمة في المنطقة ،كونه قائما على توازنات فرضتها اتفاقية سايكس بيكو، وما تزال تفرض قواعدها رغم المتغيرات التي حصلت والتي ضعضعت بنيتها ولكن من دون ان تدمرها ..
والثاني – انه لا يمكن تغيير النظام في لبنان الا من خلال تغيير موازين القوى في المنطقة واحداث زلزال في اتفاقية سايكس بيكو واعادة بناء المنطقة على قواعد ونظام جديدين ….
والثالث- ان المدخل الوحيد لزلزلة سايكس بيكو هو تحرير فلسطين وطرد الصهيونية الاسرائيلية وغيرها ،والمباشرة بإلغاء التقسيم الحالي للمنطقة القائم على تقسيمات تعزز الانقسامات العرقية والجنسية والعشائرية والطائفية والمذهبية والقبلية والعائلية ،وبحسب كل دولة وشبه دولة ونظام وشبه نظام..
اشارة اخيرة انني استعملت كلمة استتباع وليس تبعية لإبراز انها كانت وما تزال تبعية استلحاقية تصل الى فرص التبعية متأخرة وتقتصر افادتها منها على البقايا !!!!!! ….
علي يوسف ـ الحوار نيوز
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً