مقالات مختارة
ما إن خرج ملك الأردن عبد الله الثاني بتصريحاته "التنبيهية" نهاية حزيران/يونيو الماضي حول "الناتو" العربي، حتى سارعت الإمارات في أقل من 48 ساعة لتنفي أي علاقة لهذا بهذا الحلف. بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى أن التحالف، الذي لم تُعرف صيغته النهائية بعد، وهل انتقل من طور الفكرة أو الطموح إلى التطبيق، لم يكن من بنات أفكار عبد الله، بل ضيفه الذي كان قد غادره من قريب: ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وأنّ من أوحى إلى الأخير بذلك هي "إسرائيل".
هكذا، جاء الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، وبدأ جولته في فلسطين المحتلة بجوار أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، فيما أجّلت غزة كلمتها إلى حين انتهاء زيارته *. وبعدما انتهت "قمة جدة" التي سبقتها جعجعة كبرى، خرج عبد الله الذي يُعد الزعيم العربي المفضل لدى بايدن، ليعلن وضع ملف "الناتو" العربي على الرفّ. كما أكد الملك الأردني في حوار مع صحيفة "الرأي" نُشر الأحد الماضي أن موضوع الحلف صار خارج البحث "رغم الحاجة إلى منظومة عمل دفاعي مؤسسي عربي تتطلب تشاوراً وتنسيقاً وعملاً طويلاً مع الدول العربية".
مع ذلك، قدم عبد الله، المنتهي حديثاً من مشكلة أخيه (الأمير) حمزة، استدراكيْن في المحور الذي يقيم فيه: الأول عمليّ باستقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد في عمان أمس الأربعاء، والآخر إعلاميّ بقوله في الحوار نفسه: "اليوم، نواجه هجمات على حدودنا بصورة منتظمة من مليشيات لها علاقة بإيران. لذا، نأمل أن نرى تغيراً في سلوك إيران، ولا بد من أن يتحقق ذلك على أرض الواقع، لأن في ذلك مصلحة للجميع في المنطقة، بما في ذلك إيران والشعب الإيراني".
مسلسل "الانسحاب المبكر"
من يراقب الفعاليات العلنية والسرية التي سبقت زيارة بايدن ينتبه بسهولة إلى سلسلة من الخطوات تدلّ على "انسحاب" عربي مبكر - علني على الأقل - من التحالف المزعوم. بدأ الأمر بطمأنة مصرية نقلها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال زيارته الشهر الماضي إلى سلطنة عُمان. ورأيه لم يكن إلا خلاصة التقدير العسكري والأمني في القاهرة. فكما لم تكن هناك مصلحة مصرية في المشاركة الفعّالة، وليست الفعلية، في الحرب على اليمن، لا مصلحة الآن بالعضوية في تحالف إسرائيلي-خليجي سيرقى إلى إقليمي في حال دخول مصر والأردن إليه.
صحيح أن التواصل المصري-الإيراني الحديث ليس الأول من نوعه، لكنه يأتي بعد تبريد العلاقة مع تركيا والتفاهمات الأخيرة مع قطر، ما مهّد لوضع "تحسين العلاقة مع الإيرانيين" على جدول الأعمال، وخصوصاً أن التوجّه الخليجي يتبنى هذا المبدأ حالياً، وفق ما نقلت إلينا مصادر مصرية قريبة من الرئاسة المصرية. اللافت ما تكشفه لنا مصادر إيرانية في هذا السياق، فمنذ اللقاء الثلاثي في شرم الشيخ بين السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، نهاية أيار/مايو الماضي، فُتح "الخط الساخن" بين طهران والقاهرة.
آنذاك، ومع أن اللقاء عُقد على أرض مصرية، أرسل المصريون إلى الإيرانيين أنهم أُجبروا على عقد هذه القمة، لكنهم غير مقتنعين بنتائجها، ولن ينفذوا منها شيئاً، ثم توالت الرسائل عبر طرق أخرى كان أهمها العراق. وحينئذ، صدر تلميح أقرب إلى التصريح من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حول الأمر. مع ذلك، ثمة نفي إيراني لتواصل مباشر مع القاهرة، بل أعرب وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، عن تمنيه عودةَ المياه إلى مجاريها بين البلدين، وخصوصاً أن نظرة بلاده إلى مصر ودورها في المنطقة "تاريخية واستراتيجية".
إن كان مربط الفرس في قضية ذلك التحالف يقع في مصر، لما لدخولها فيه من وزن إقليمي وفعلي، فإن مسلسل الانسحاب العربي من "الناتو" المدّعى لم يكن مصرياً فحسب. لقد تتابعت في حزيران/يونيو ومطلع تموز/يوليو الرسائل الأردنية لتبريد السخونة التي أحدثها القصر والحكومة بالحديث عن الشمال السوري و"المليشيات الإيرانية". وقد تناوب على أداء هذا الدور وزير الخارجية المقرب من الملك أيمن الصفدي ورئيس الوزراء بشر الخصاونة.
في العاشر من الشهر الجاري، أي قبيل أيام قليلة من وصول بايدن، قال الخصاونة إن عمان "منفتحة على علاقات صحية" مع طهران، مؤكداً أن بلاده "لم تتعامل يوماً مع إيران على أنها مصدر تهديد لأمنها القومي"، رغم إشارته إلى "ارتفاع كبير في عمليات التهريب المنظمة على الحدود الشمالية"، مع معرفته التامة بهوية من يقف وراء تلك العمليات.
يعلو "الصراخ" الأردني لأهداف كثيرة، أهمها استجلاب الدعم الأميركي واستمراره، ولتبرير الموقف الأردني أمام المعلومات "الساخنة" التي تحدثت عن دخول سلاح إلى الضفة المحتلة من خلال المثلث الحدودي الشمالي. أما اللقاء بين عبد الله ولابيد أمس، فلا يحمل بالضرورة دليلاً على انطلاق الحلف، وخصوصاً أنه أعقب زيارة سريعة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. الواضح هو التركيز على الوضع المتصاعد في الضفة. ومع ذلك، أوردت وكالة "بترا" أن "جلالة الملك أشار إلى أهمية البناء على زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن... كما تناول اللقاء قضايا النقل والتجارة والمياه والطاقة".
لكن قائمة المنسحبين لم تقتصر على مصر والأردن، إنما ضمت الإمارات والبحرين اللتين تلقيتا "تحذيرات جدية" من تحت الطاولة وفوقها، وهذا ما دفع الأولى إلى السعي الحثيث لتبريد العلاقة. ووفق المصادر الإيرانية، كان فحوى التحذير أنه "في حال ثبوت أي مشاركة لأي من هاتين الدولتين في عمل داخل الجمهورية، سيكون هناك رد فعل مباشر داخلهما".
تأكيد المؤكد
بعد ذلك، وعقب انتهاء الزيارة وبيان نتائجها، وخلال يوم واحد (أول من أمس)، أجرى عبد اللهيان جولة اتصالات بنظرائه في الخليج، إضافةً إلى العراق، لتأكيد ما اتفق عليه عبر الرسائل والاتصالات المباشرة وغير المباشرة، بل لإخراجه إلى فوق الطاولة ليكون "وثيقة علنية" يُحتج بها على أنظمة هذه الدول في حال اختراق التفاهمات التي تضمن الأمن القومي الإيراني وكل ما يتصل به.
وبينما شملت الاتصالات نظراء أمير عبداللهيان الإماراتي والعماني والكويتي والقطري، لم تأتِ إشارة إلى أي اتصال شبيه مع البحرين، ولهذا دلالته المتعلقة بحجم هذا البلد ومحله من الإعراب الإيراني ومجرد كونه مجسّ اختبار سعودياً. في المقابل، رفعت أبو ظبي مستوى التمثيل الدبلوماسي لدى طهران، وأوفدت الكويت سفيراً جديداً، مشددة بدورها على أن "القادة المشاركين في قمة جدة أكدوا إيجاد علاقات جيدة مع إيران والحفاظ عليها".
تلك المواقف قابلها الوزير المتخصص بالشؤون العربية والأفريقية بلباقته المعهودة، حين قال إن بلاده عبّرت عن رضاها حيال "الكياسة التي أظهرتها بلدان المنطقة في عدم إعطاء قمة جدة طابعاً معادياً لإيران"، لكن هل يكفي هذا كله ليطَمْئِنَ الإيرانيين؟
البيع بالمفرق وشراء الوقت
ما سبق من تطمينات ورسائل يتناقض مع معطيات يكشف عنها الإسرائيليون أولاً بأول، فضلاً عن الخطوات التطبيعية المتسارعة يوماً بعد يوم في مجالات متنوعة. من جهة أخرى، يبدو حجم العمل الأمني ضد إيران، التي تعلن بصورة شبه شهرية، وأحياناً أسبوعية، ضبطها شبكات وعملاء، مؤشراً سلبياً على غياب التحالف المذكور، مع أن الحديث الإيراني هو أن العمل الأمني يتركز انطلاقه حالياً من كردستان العراق بعدما حُيّدت أذربيجان ودول أخرى. هذا ما يجعل الإيرانيين، وفق المصادر التي تحدثت إلينا من طهران، يراقبون التطورات أولاً بأول، بل يعملون على ربط الخيوط المتشابكة.
حتى اللحظة، لا يوجد ما يثبت أن دول الخليج، أو حتى مصر والأردن، تساهم مباشرة في عمل أمني أو عسكري ضد الجمهورية الإسلامية. في النتيجة، يبدو لدى أصحاب القرار لدى قوى المقاومة ومستشاريهم أن ما تفعله هذه الدول، وخصوصاً السعودية، هو مزيج من سياستين: البيع بالمفرق، وشراء الوقت. في السياسة الأولى، تريد الرياض، كما أبو ظبي، أن تبيع لكل طرف ما يريده عملاً بالطريقة التركية لأخذ المكاسب من الجميع و"تصفير" الأضرار، وهذا ما بات يدركه الأميركيون والإسرائيليون ويعملون على عكسه لمصلحتهم، علماً أنه يُلمس منه "نضج" معين لدى الحكم السعودي.
من الجيد هنا استرجاع تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، لفهم الواقع بعيداً من المجاملات التي يدرك الإيرانيون الحقيقي من الزائف منها. كشف غانتس أن "إسرائيل" شاركت منذ اتفاقيات التطبيع في 10 مناورات متعددة الجنسيات على الأقل مع دول المنطقة، وقال في مقابلة مع مجلة "أتلانتيك"، يوم الجمعة الماضي، إن "الاتفاقيات الإبراهيمية تجعل من الممكن توسيع العلاقات مع دول المنطقة في القضايا الأمنية وخلق ما نسميه الهيكل الإقليمي... جرت مئات من المحادثات واللقاءات منذ الاتفاقيات، ويجري حالياً إنشاء مظلة استراتيجية للتنسيق مع دول الشرق الأوسط، وتقود الولايات المتحدة هذا التنسيق وتساعدنا".
إن قراءة هذا الخطاب بتأنٍّ تقود إلى السياسة الثانية: شراء الوقت، فدول المنطقة المتحالفة مع "إسرائيل" تدرك والأخيرة أنها لا تستطيع من دون قيادة أميركية عملياتية مباشرة فتح جبهة مع إيران، ولذلك لم تغير استراتيجيتها العدائية ضد طهران، لكنها تريد أن تتخمّر آليات التنسيق والتعاون، وأن تنفتح الجيوش على بعضها بعضاً وتتشابك الأذرع البحرية والجوية والبرية والسايبرية والأمنية، كي تشنّ ضرباتها المتتابعة والمؤثرة في الوقت المناسب، وخصوصاً أنها حصّلت سلسلةً من الإخفاقات المتوالية والمتوازية على مدى سنوات طويلة من العمل وأموالاً هائلة.
ثمة وجهة نظر أخرى نشرتها هذا الشهرَ مجلاتٌ تابعة لمراكز أبحاث أميركية تقول إن الهدف ليس الهجوم، إنما الاحتواء، بعدما اقتنعت الدول الخليجية بأن سياسة الإقصاء لإيران لم تكن مجدية، وخصوصاً أنَّ الوصفة الأميركية المتبعة منذ 4 عقود لم تزد طهران إلا عناداً، بل دفعتها إلى "تعظيم قدراتها الاقتصادية والعسكرية". أيضاً، اندفعت الجمهورية إلى بناء/تقوية علاقات مع الدول التي لا تشارك في حملة الضغط القصوى أو ليس لها مصلحة فيها، كالصين وروسيا، وحتى تركيا ودول أخرى أجرى مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي لقاءات متتابعة مع قادتها خلال أقل من شهرين.
هي مؤشرات التقطها الخليج الذي بات خائفاً من "الفراغ الأميركي" في المنطقة، وأيضاً من العجز الإسرائيلي عن ملء هذا الفراغ، لكن لكي لا يقع البيض كله في السلتين الإيرانية والتركية - مع استغناء مصر عن ثقلها الإقليمي - لا بد من "وزن" إسرائيلي في الكفة المقابلة، رغم خطورة هذه المعادلة، ولا سيما إن استشعرت طهران مؤشرات خطر حقيقية، واتخذت قراراً بالرد المباشر والفوري.
في المحصلة، بقدر ما استفز عنوان "الناتو" الإيرانيين، وجعلهم يستنفرون على أعلى المستويات، ربما يكون التنسيق والتعاون العربي-الإسرائيلي المستجد والمتزايد أخطر من ذلك الحلف، لو كان قد تشكل بمسمى معلن وهيكلية واضحة... أو ربما هو بانتظار الفرصة والتوقيت المناسبين له، فيما تبقى التفاصيل نفسها.
"هدية" غزة إلى الوسطاء.. و"إسرائيل"
قدمت فصائل المقاومة في غزة "هدية" إلى كل من مصر وقطر وتركيا، وحتى السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، الذين تحدثوا جميعاً معها من أجل تجنب أي تصعيد خلال وجود جو بايدن في فلسطين المحتلة. كانت "الهدية" تمرير الزيارة من دون صواريخ أو بالونات متفجرة في مقابل تسهيلات، فيما تجاهل "الضيف" الأميركي ذِكر غزة، لكن بعد مغادرته المباشِرة إلى جدة، أُطلقت صواريخ على عسقلان المحتلة.
اختلف الإسرائيليون في قراءة الرسالة المشكّلة من 4 صواريخ مختلفة الأنواع خرجت على 3 دفعات، لكن ما أجمعوا عليه في الحد الأدنى هو أن غزة تريد التذكير بنفسها، وأنها لا تزال حاضرة في الأولويات. وثمة من ذهب أبعد حينما رأى أن "الرسالة الصاروخية" جزء من رد استباقي لقوى المقاومة في المنطقة على "الناتو" الجديد.
لكن الجزء الثابت والواضح من هذه الرسالة، ولا سيما مع "الخربطة" الإسرائيلية المعتادة في رواية الرصد والتصدي للصواريخ، كانت أن "إسرائيل" التي تستعرض أنظمة الدفاع الجوي المتعددة وتقدم نفسها حامية للمنطقة من إيران وغير إيران عاجزة عن حماية نفسها، كما تقول مصادر في المقاومة.
عبد الرحمن نصار ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً