أقلام الثبات
رحيل الرئيس سعد الحريري عن الحياة السياسية، ولو كان تحت مُسمَّى "تعليق النشاط" وعدم خوض الإنتخابات النيابية، لم يحصل فقط بضغط إقليمي، لأن تغييبه كان مفترضاً حصوله يوم استُقِيل من الرياض في نهاية العام 2017، وجُرعة حليب السباع التي تناولها في بيروت، وتمرَّد بعدها على تعليمات "طويلي العُمر" في المملكة، وتراجع عن استقالته، كانت لزوم ما لا يلزم، لأن تذكرة سفر سعودية "وان واي تيكيت" كانت قد قُطِعت له، بناء على وشاية سمير جعجع الصريحة: "هذا الرجل غير مناسب لنواجه به حزب الله من السراي"، يُضاف إليها أن وضع الرجل مادياً، لم يعُد يسمح له لا بعلف الحاشية التي ورِثها عن الوالد وشاركته بدموع التماسيح زيارات الضريح، ولا هو قادر على دفع مصاريف إنتخابية، وهو ما زال مديناً بقسائم بنزين لبعض محطات الوقود منذ إنتخابات 2018.
نهاية المسيرة السياسية للرئيس سعد الحريري، نُوردها بالوقائع وبعيداً عن التحليل:
أولاً: تيار المستقبل كان قائماً على البذخ المادي والخدمات المباشرة، في زمن المرحوم رفيق الحريري، وبعد اقتسام الإرث، لم يعُد بالإمكان استمرار مؤسسات الخدمات الصحية والتربوية والإجتماعية بتقديماتها، والشارع الذي اعتاد الولاء لقاء مقابل مادي، لم يرسم له الوريث سعد خارطة طريق لإستكمال مسيرة ما تُسمَّى "الحريرية السياسية"، إضافة الى كل كوارث الدَّين العام التي أودَت بالوطن في زمن الحكومات الحريرية المتعاقبة الى هاوية الإنهيار.
ثانياً: بعد العام 2011، سقط سعد الحريري في شرك الوهَم، وراهن على سقوط النظام السوري، وأدخل نفسه زواريب النزاع المذهبي، خصوصا أنه سبق لفؤاد السنيورة أن أورثه كُرسي السراي مُلوَّثة مذهبياً بمواقف مُخزية خلال عدوان تموز 2006، وكان مطلوباً من الحريري أن يتبع هذا النهج نُصرةً لما تُسمَّى المعارضة السورية من مُنطلق مذهبي أيضاً، وبالتالي لم يعُد بإمكان الرجل أن يكون رئيس حكومة كل لبنان، وهو يُخالف البيانات الوزارية التي وضعها بالنسبة لمعادلة " الجيش والشعب والمقاومة"، فلا هو أرضى المقاومة، ولا أرضى الشارع السُنِّي الذي كان بعضه يغلي على مدى عشر سنوات، منذ مواجهات نهر البارد عام 2007 حتى المواجهة مع التكفيريين عام 2017، مروراً بكل ما حصل من معارك مذهبية بين جبل محسن وباب التبانة، وأحداث السابع من أيار في بيروت عام 2008، وانتهاء بظاهرة أحمد الأسير الأكثر مذهبية عام 2013.
ثالثاً: الرياح المذهبية التي عصفت بالمنطقة، أنبتت خلايا تكفيرية في لبنان، حتى في الحديقة الخلفية لبيت الوسط، سواء من خلال مواقف خالد الضاهر من الجيش في عكار، أو حروب الزواريب بقيادة أشرف ريفي في طرابلس، وصولاً الى الغيرة على عرسال من نواب تيار المستقبل ولو على حساب دماء شهداء الجيش وقوى الأمن الداخلي، فوجد الحريري نفسه مُلزماً بمُسايرة الموجة المذهبية في جزء من الشارع السُنِّي، وسعى الى استرضاء خالد الضاهر واستقبله في بيت الوسط ، واستعطف أشرف ريفي وصالحه في بيت فؤاد السنيورة كما وأنه صلاح الدين الأيوبي.
رابعاً: بات من المستحيل على الرئيس سعد الحريري التفرُّد بالشارع الإنتخابي على قاعدة "زي ما هيي"، سواء على مستوى تشكيل اللوائح أو إلزام الناخبين بها، لأن صلاحية الوكالة التي أُعطيت له عام 2005 قد انتهت، والطائفة السُنِّية ولَّادة عبر تاريخها السياسي، ووهج أموال رفيق الحريري وإن سطع في سوليدير، لم يُرضِ جماهير الفقراء، الذين كانوا يزحفون لدعم نجله من الشمال الى الجنوب، مروراً بكل المناطق التي كانت تحِجُّ بصدقٍ الى الضريح، ولم تعُد تُسعفها الأمعاء الخاوية على الإستمرار بلا أمل، خلف تيارٍ قائمٍ على المال وله حساباته في الإستثمار البشري.
خامساً وأخيراً: احتاج الحريري في آخر أيام حياته السياسية، حتى الى خالد الضاهر في عكار، وأشرف ريفي في طرابلس، و"بيروت مدينتي" دقَّت عليه ناقوس الخطر في الإنتخابات البلدية عام 2016، والمقعد الذي تشغله عمَّته بهية في صيدا ليس بذلك الإنجاز قياساً لقدرات بيت الحريري، وفي البقاع الغربي كانت هناك مفاوضات مع الوزير السابق حسن مراد لتحالف إنتخابي قبل قرار تعليق النشاط، لننتهي مع بيروت الثانية التي تشهد إقبالاً غير مسبوق في الترشيحات بلغ 83 مرشحاً ضمن 10 لوائح يتنافسون على 11 مقعداً، وسط دعوات من السفير السعودي والمفتي دريان تحثُّ الشارع السُنِّي على المشاركة الكثيفة، وهذا أكبر إثبات أن هذه الطائفة فعلاً ولَّادة، ولن تتوقَّف عن إنبات قيادات، وحقبة أحادية القطب السياسي قد انتهت، ويكفيها ما أهدرته من آمال وآلام ودموع كما سائر اللبنانيين، بين موقع الضريح وبوابة بيت الوسط.