أقلام الثبات
"العالم أمام تشكل جديد تتراجع معه الأحادية الأميركية، ليحل محلها نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب". هذا ما تعلنه تصريحات القادة الروس ومعهم قادة الدول التي تتماهى معهم، في مواجهة الهيمنة الأميركية المتفردة في قيادة العالم.
ليس هذه فحسب، بل أن البعض خرج ليقول "إما أن تخرج روسيا منتصرة من حربها ضد حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، أو ينتهي العالم". حتى أن أحد المحللين الروس كتب بأن "لا عالم من دون روسيا".
هذا المناخ العالمي الجديد، الذي أنتجته سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في معاقبة القوى النازية والصهيونية التي استولت على الحكم في أوكرانيا؛ وكذلك بردع تمدد حلف شمال الأطلسي "الناتو" إلى الحدود الروسية الوطنية، الذي اعتبرته روسيا تهديداً لأمنها القومي، عززه تهديد بوتين باستعمال السلاح النووي ضد أي تدخل أميركي وغربي ضد بلاده. وآخر تصريحاته في هذا الشأن كان أمس، عندما حذّر "الأطراف الخارجية من التدخل في الأحداث الأوكرانية وتوعّد برد صاعق"، مؤكدا "أن روسيا في حال تعرضها لأي تهديد استراتيجي ستستخدم أسلحة لا يمتلكها أي من خصومها".
وقال بوتين في كلمة ألقاها أمام أعضاء المجلس التشريعي في الجمعية الفدرالية الروسية في بطرسبورغ: "كل القرارت بهذا الشأن جاهزة". وأضاف: "نمتلك كل الإمكانات لمثل هذا الرد وأدوات لا يمكن أن يتباهى أحد بامتلاكها، لكننا لن نتباهى بها بل سنستخدمها".
في مقابل ذلك، يبدو واضحاً التراجع الأميركي، رغم الغطاء النفسي الذي يغزله التهجم الشخصي للرئيس الأميركي جو بايدن، على الرئيس الروسي ووصفه له بصفات إستفزازية، فها هو قائد عمليات القوات البحرية الأميركية الأدميرال مايكل غيلادي يقول: "إن السفن الحربية الأميركية ستبقى خارج البحر الأسود، تجنبا لأي تصعيد مع روسيا خلال عمليتها العسكرية في أوكرانيا".
ويضيف غيلادي، في حديث لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "أن الرئيس الأميركي جو بايدن لا يريد للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي (ناتو) التورط في الصراع في أوكرانيا".
والأمر نفسه يصدر عن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) جون كيربي، الذي قال: "واشنطن لا ترى أي سبب لتصاعد الأزمة في أوكرانيا كي تصبح صراعاً نووياً".
لكن ذلك لا يعني حياداً أميركياً أو من قبل "الناتو"، إذ إضافة إلى التصريحات والتهديدات الغربية العلنية لروسيا، أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ينس ستولتنبيرغ أمس الخميس، أن "الحلفاء في الناتو قدموا لأوكرانيا دعماً لا يقل عن 8 مليارات دولار".
كما نقلت وكالة "بلومبرغ" عن مسؤولين أميركيين "تخوفهم من أن مخزونات الأسلحة الأميركية ستنفذ في غضون بضعة أشهر، إذا استمر البيت الأبيض في ارسال مساعدات عسكرية إلى اوكرانيا، مما يشكل تهديداً كبيرا للامن الأميركي". وكشفت أن الولايات المتحدة سلمت سلطات أوكرانيا ما يقرب من ربع مخزونها من أنظمة الدفاع الجوي المحمولة من طراز "ستينغر".
لكن الموقف الروسي رد بصلابة بأن "روسيا ستعتبر المركبات الأميركية والأطلسية التي تنقل أسلحة على الأراضي الأوكرانية أهدافاً عسكرية مشروعة". ولا ننسى الوثائق التي قدمها الروس للأمم المتحدة وفيها يتهمون الأميركيين بأنتاج أسلحة كيميائية وجرثومية، في مصانع أقاموها في أوكرانيا بتمويل من إبن الرئيس بايدن.
وحسب مراقبين غربيين، فإن "هزال الموقفين الأميركي والأوروبي" يشجع بوتين على مواصلة حملته ضد أوكرانيا، من خلال "التعامل بخفة مع الأزمة الحالية، بين تهويل من إحتلال عسكري روسي لأوكرانيا وجعبة خاوية من أي رد رادع، سوى التلويح بعقوبات يعرف الجميع عدم فعاليتها". وكأن الأميركيين ودول "الناتو" يريدون مقاتلة الروس حتى آخر أوكراني، من دون أن تعوض ذلك تهديدات وزير الدفاع البريطاني بن والاس "باستخدام الأسلحة النووية لحماية حلف "الناتو" ضد روسيا. وأن البحرية البريطانية مستعدة لإطلاق أسلحة نووية إذا لزم الأمر". مذكراً روسيا بأن "الناتو تحالف نووي". فالتطورات الدولية بينت أن بريطانيا في مثل هذه المواقف تسعى لتوريط الأميركيين لتقاتل بهم؛ ولا تجرؤ على المبادرة لوحدها.
هذا التراجع والضعف في الموقف الأميركي، لا يقتصر على الأزمة الأوكرانية، بل يطال مختلف مناطق الصراع مع الدول التي تتصدى للهيمنة الأميركية واصرارها على فرض مشيئتها وسياساتها على غيرها من دول وشعوب. وأول معالم ذلك التراجع، يكمن في الإرتباك الأوروبي ومحاولة التملص الألماني والفرنسي من الإصطفاف الكامل خلف المواقف الأميركية، التي باتت تعلن منذ سنوات أنها غير معنية لوحدها بالدفاع عن أوروبا. وأن على الأخيرة أن تدفع كلفة أمنها.
وتأتي تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتضيف جرعة إلى هذا التراجع، حيث قال في تصريح جديد له، أن "إيران لا تخاف منا". وأضاف: "لقد أنفقنا 6 تريليونات دولار في العراق، لكن [بسبب إيران] علينا دخول العراق من دون تشغيل الأضواء، حسبما قال لي الجنود عندما وصلت قاعدة عين الأسد، لأننا في العراق".
ولا يختلف الموقف الصيني عن الروسي في مواجهة الأحادية الأميركية، فالصينيون يضعون جزيرة تايوان نصب أعينهم، لإعادتها إلى حضن الوطن الأم، على طريقة تعامل بوتين مع أوكرانيا، على رغم المعارضة الأميركية. ولا يخفي المسؤولون الصينيون رفضهم وتلويحهم بالرد كلما مرت فرقاطة أميركية في مضيق تايوان، أو في بحر الصين، الذي تمددت بكين داخله ببنائها جزراً صناعية فيه لغايات عسكرية. كما عقدت إتفاقية عسكرية مع جزر سليمان، لم تخفت الشكوى الأميركية منها حتى الساعة.
كذلك، زار وزير الدفاع الصيني وي فنغ خيه إيران منذ يومين. وكان واضحاً عندما قال إن الهدف من زيارته هو تعزيز التعاون الإستراتيجي الدفاعي بين البلدين.
ورافق ذلك قول المرشد الإيراني السيد علي خامنئي "لقد أصبحت أميركا أضعف في سياساتها الداخلية والخارجية وفي اقتصادها وأمنها وكل شيء. واضاف: "العالم على اعتاب نظام دولي جديد واميركا باتت أضعف".
ونقلت وسائل الإعلام عن قائد البحرية في حرس الثورة الإيراني علي رضا تنكسيري قوله: "قواتنا البحرية في ذروة قدرتها ولا نخشى أي قوة إقليمية ودولية". فيما قال نائب القائد العام للحرس العميد عباس نيلفروشان: "أن حرس الثورة يمتلك أكبر قوة صاروخية وأقوى طائرات مسيرة في منطقة غرب آسيا".
أما البيت الأبيض الأميركي، فكرر مقولته الممجوجة: "نشعر بالقلق من تسريع طهران لوتيرة برنامجها النووي والوقت الذي تحتاجه لإنتاج سلاح نووي يقل عن عام". في حين لا تجد واشنطن وقتاً لتعلق على إعلان كوريا الشمالية أنها ستواصل تطوير سلاحها النووي "لردع أي حرب".
هذا التخبط الأميركي مؤشر على أفول سريع للهيمنة الأميركية، لا يرسم معالمه الصراع المسلح في أوكرانيا فقط، بل إن الخطر الأكبر على تلك الهيمنة ياتي مما سمي "تحدي الروبل للدولار". فالرئيس الروسي إتخذ أحد أخطر القرارات تهديداً للهيمنة الأميركية، عبر فرضه على الدول "غير الصديقة" دفع ثمن الغاز والنفط، الذي تستورده من روسيا، بالعملة الروسية "الروبل" وليس بالدولار الأميركي، مما أفرغ العقوبات الأميركية بحق بلاده من جزء اساسي من مفاعيلها على الإقتصاد الروسي. خصوصاً أن الأميركيين يتفردون عن بقية دول العالم بتراجعهم عن تغطية عملتهم بقيمة مماثلة لها من الذهب، بل يشترون سلع الآخرين بوريقات قيمتها هي كلفة طباعتها.
ولو عطفنا كل ذلك على الفشل الأميركي العسكري في سورية وفي العراق واليمن؛ وكذلك فشلها في منع محور المقاومة من تشكيل طوق يخنق قاعدتها العسكرية المتقدمة (الكيان "الإسرائيلي")، بمشاركة من المقاومة الفلسطينية في غزة وفي الداخل المحتل. وكذلك، فشلها في إخضاع لبنان واللبنانيين لإملاءاتها بالتطبيع مع ذاك الكيان؛ أو بتلبية أطماعه في المياه والأرض اللبنانية وبجزء من ثروة النفط والغاز المكتشف في بحره، إضافة إلى فشلها في فرض قبوله توطين اللاجئين الفلسطينيين ودمج النازحين السوريين، فإن عصراً جديداً من إنهيار الهيمنة الأميركية بات يلوح أمام الدول والشعوب، التي قدمت تضحيات كبيرة لتصل إلى هذا الوعد الذي بات قريباً.