أقلام الثبات
يكتسب يوم القدس لهذا العام أهمية استثنائية، أولاً في ظل ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من تصاعد حالة الاشتباك المقاوم مع الاحتلال الصهيوني على شعاع الجغرافية الفلسطينية، في مناطقنا المحتلة عام 48، وقطاع غزة والضفة الغربية، وفي القدس. مراكمةً على ما حققته معركة سيف القدس في أيار 2021. وثانياً، لما تتعرض له مدينة القدس ومقدساتها، والمسجد الأقصى في القلب منها، من استباحة في التهويد المتمادي، حيث استمد قادة الكيان القدرة في تماديهم المتواصل، من خلال قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في اعترافه المشؤوم بأنّ القدس عاصمة لكيان الاحتلال الصهيوني، ونقله سفارة بلاده إليها. وبالتالي، من الهرولة غير المسبوقة للأنظمة الرجعية العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإقامة التحالفات في شتى المجالات لا سيما العسكرية والأمنية منها. والتي وفرت لها اتفاقات "أوسلو" الذرائع والمبررات الكاذبة للتحلل من مسؤولياتها نحو القضية الفلسطينية، بل وقضايا الأمة، مُعرضةً الأمن القومي العربي والإسلامي للخطر.
في هذا اليوم، لا بد وكعربون وفاء أن نتذكر الإمام الخميني الذي كان له الفضل في إطلاق النداء العالمي للقدس من خلفية إيمانية وشرعية. فما أن انتصرت الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979، حتى أطلق الراحل الكبير نداءه الشهير يوم القدس العالمي، والذي جاء فيه: "أدعو جميع المسلمين في العالم إلى اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يوماً للقدس وأن يعلنوا دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم".
بعد مرور 43 عاماً على إطلاق الإمام الخميني، دعوته بإعلان يوم القدس العالمي. لا زلنا بحاجة لاستكشاف الأبعاد التي وقفت وراء الإعلان، ولتلك القراءة الدقيقة العميقة التي عكفّ عليها الإمام الخميني في فهم الجذور والأصول والإيديولوجيا الخبيثة التي انطلقت منها الحركة الصهيونية لتستوطن وتغتصب الأرض الفلسطينية، وتتمسك بمدينة القدس عاصمة كيانها المصطنع. في العودة إلى قراءة الإعلان والتوقف ملياً عنده، بل والتمعن جيداً في كلماته لما تضمنته من استشراف إستراتيجي لتلك الأهداف التي تعمل عليها قوى الاستكبار العالمي وغدتها السرطانية الكيان الصهيوني على غير صعيد ومستوى: -
1. الإمام الخميني رحمه الله، ومن شدة حبه وإيمانه العميق بقضية القدس ووضوح عدالتها وقدسيتها، طالب المسلمين أن يجعلوا من يوم القدس يوماً كبيراً يقيمون فيه التظاهرات في كل الدول الإسلامية، وأن يعقدوا المجالس والمحافل ويرددوا النداء في المساجد.
2. لم يكن اختيار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان عن عبث، فرغم أن شهر رمضان ركنٌ من أركان الإسلام، فهو قيمة في التعبئة والتوعية حول الجهاد والكفاح لدى شعوب أمتنا ضد المحتل المغتصب للأرض والمقدسات، والمنتهك لحقوق الإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم.
3. لقد جاء النداء بالإضافة لكونه يوماً للتضامن والالتفاف حول فلسطين وقضية القدس، بمنزلة الرد الحاسم على حالة التردي التي تعيشها الأمتان العربية والإسلامية ونظمها السياسية المتخلفة عن نصرتها للحق الفلسطيني على اعتبار أنّ قضيته هي قضية الأمة جمعاء، والتي لا قيامة ولا تقدم ولا رفعة لها من دون التمسك بقضية فلسطين.
4. الإمام الخميني أراد من خلال النداء العالمي الذي أطلقه ألاّ يقف عند حدود هذا اليوم وحسب، بل أراده أن يكون يوماً لتوحيد المستضعفين في مواجهة المستكبرين، من خلال حث الشعوب المظلومة على مواجهة جشع وظلم واحتكار الاستكبار الأميركي والكيان الصهيوني، بعد أن جعل هذا النداء القضية الفلسطينية ذات أبعاد عالمية وإنسانية بالإضافة لكونها عربية وإسلامية. وهو بذلك ضيّق على الكيان الصهيوني هامش حراكه في جعل الصراع في بعده العربي فقط، ليُضاف له بعد جديد هو البعد الإسلامي على الرغم من أن اتفاقات أوسلو وأخواتها مست جوهرياً هذين البعدين.
5. أعلن للعالم أجمع، وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، أنّ هوية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هي فلسطين وعاصمتها القدس، ونصرة المستضعفين في العالم، والشعب الفلسطيني وقضيته ومقاومته في سلم أولويات هذه المناصرة. فكانت أولى مدلولات تبني هذه الهوية، طرد السفير الصهيوني من طهران، ووضع سفارة فلسطين مكان سفارة الكيان، وإطلاق شعار اليوم طهران وغداً فلسطين.
6. أعطى للصراع مع الكيان الصهيوني بعده الإسلامي، كي لا يبقى في البعد العربي بما فيه الفلسطيني، بعداً مستفرداً به. في دلالة بالغة أنّ فلسطين وفي القلب منها القدس، فبقدر ما هي قضية عربية، فهي قضية إسلامية، وقضية الأحرار والمستضعفين في هذا العالم. من خلال التأكيد على أن القدس برمزيتها ودلالاتها زمانياً ومكانياً ليست مسؤوليتها مقتصرة على القوى القومية والعلمانية بل هي إسلامية لأن المطلوب تحشيد طاقات الأمة من أجل نصرتها والذود عنها. وهي فوق كل ذلك تكليف شرعي يحض على تحريرها واجتثاث الغدة السرطانية الكيان الصهيوني.
7. أكد على أنّ الصراع مع الكيان الصهيوني، صراع على وجود لا صراع حدود. لأن الكيان هو دخيل وغاصب ومحتل، لا حق له في العيش والاستمرار على أرض فلسطين، مهما حاول هذا الكيان أن يتلطى وراء أكذوبة محارق الهولوكوست، بهدف استثارة عواطف العالم، لكسب التأييد الرخيص.
8. وإن أكّد على قدرة الشعب الفلسطيني وقوه في تحقيق الانتصار، فهو طالبه الالتزام بالقدرة على الإيمان بقضيته، وتوحيد كلمته. وكلامه جاء من خلفية أنّ تحقيق الانتصار مشروطة بالوحدة والإيمان والمقاومة، لأنّه بغير ذلك لا يمكن طرد وكنس الاحتلال الصهيوني. وللأسف هذه هي حال مشهد الفصائل الفلسطينية من الانقسام السياسي والجغرافي، وهو ما يوظِّفهُ الكيان في فرض وقائعه الميدانية على عناوين القضية وفي القلب منها القدس.
9. من المؤكد أنّ الإمام الخميني كان يُدرك جيداً أنّ الأنظمة الرجعية العربية، تحرص جيداً على إقامة علاقات تطبيع مع الكيان الصهيوني. التي تطورت اليوم إلى تحالفات مشبوهة تستهدف مصالح الأمة وتطلعاتها وقوى المقاومة فيها، وقضية فلسطين في المقدمة منها لذلك قال: " إنني اعتبر مساندة المشروع، الذي يمنح الاستقلال والاعتراف الرسمي ل "إسرائيل"، فاجعة كبرى للمسلمين، وانتحار للحكومات الإسلامية، واعتبر معارضة ذلك فريضة إسلامية كبرى".
10. دعوته الصريحة أنّ تحرير القدس لا يكون إلاّ بالمقاومة المسلحة وحدها. فهو قال: " في تحرير القدس، يجب الاستفادة من الأسلحة المستندة على الإيمان وقدرة الإسلام، وترك الألاعيب السياسية التي تفوح منها رائحة المساومة وإرضاء القوى العظمى جانباً".
من هنا نرى أن القضية الفلسطينية احتلت في فكر ومنهج الإمام الراحل حيزاً لا يُستهان به. فهي بالنسبة إليه ولبقية الشعب الإيراني المسلم وعلمائه قضية عقيدية، وليست قضية سياسية أو مصالح قابلة للاتفاق أو الاستخدام والتوظيف، وبذلك كان الإمام الراحل أول رجل دين يُعطي الصراع مع الحركة الصهيونية وكيانها المصطنع البعد الإسلامي. كيف لا وعندما انطلقت الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة عام 1965، أصدر الإمام الفتوى الشهيرة التي تطالب المسلمين الالتحاق في صفوفها للمشاركة في المقاومة لتحرير فلسطين. فأصبحت القضية الفلسطينية وكأنها جزء من قضية إيران، والخطر الصهيوني كأنه خطر يحدق بإيران قبل أن يهدد العالم العربي، لذلك مثلت القضية الفلسطينية موقع العين والقلب بالنسبة للثورة قائداً وشعباً ودولةً.