أقلام الثبات
مساء يوم التاسع والعشرين من آذار اقتحمت قوة من حرس الحدود والشرطة قرية عرابة، وباشرت بإطلاق النار على المواطنين، فاستشهد على أثرها الفلسطيني خير ياسين كأول شهداء يوم الأرض.
وفي يوم الثلاثين من آذار، وفي خطوة تهدف إلى إفشال الإضراب العام الذي أعلنت عنه اللجنة الوطنية، أصدرت شرطة الكيان قراراً يُمنع بموجبه التجول في قُرى الجليل والمثلث لمدة 24 ساعة. ولكن هذا القرار لم يجد طريقاً له عند الفلسطينيين الذين خرجوا في حشود كبيرة إلى الشوارع والساحات معبرين عن سخطهم، واشتبكوا مع الجيش والشرطة، في مواجهة لم يسبق لها مثيل حيث سقط العشرات من الشهداء والجرحى واعتقال المئات. والشهداء هم: خير أحمد ياسين، خديجة قاسم شواهنة، رجا حسين أبو ريا، خضر عيد محمود خلايلة، محسن حسن سيد طه، رأفت علي زهدي.
سقط الشهداء ولونت دمائهم الأرض وانسلت بين أعماقها جذوراً قوية بإرادة أبنائها التي لا تكسرها قوة أو جبروت صهيوني. وكتب هؤلاء الشهداء بدمائهم صفحة جديدة من مقاومة الشعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب لسياسات وممارسات الكيان الصهيوني، وعلى عادته دخل الإعلام العبري في المعركة ضد الفلسطينيين الذين هبوا في يوم الأرض للدفاع عن أرضهم ومنع مصادرتها من قبل الكيان الصهيوني. وذلك من خلال قلب الحقائق، ومحاولة إظهار الفلسطينيين على أنهم المعتدون بينما حقائق الأمور تؤكد أنهم المعتدى عليهم.
والتقت التقارير الصحافية للإعلام العبري عند نقطة واحدة هي في كيفية تفريغ إضراب يوم الأرض من مضامينه السياسية، ومن عناوين التحركات الشعبية، المتمثلة في المظاهرات والاحتجاجات والمهرجانات الخطابية والتجمعات الجماهيرية، والتي عبرت جميعها عن رفض الشعب الفلسطيني لسياسات الكيان الهادفة إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها العرب الأصليين، لصالح يهود جلبتهم الحركة الصهيونية بتسهيل وتشجيع القوى الاستعمارية، لا سيما بريطانيا، من مختلف دول العالم. وعمدت وسائل الإعلام العبرية إلى تزييف حقائق التحركات المدنية السلمية، على أنها تحركات عنفيه وفوضوية وتخريبية وإجرامية، وأعمال شغب خارجة عن القانون والدولة العبرية، تحمل طابعاً تحريضياً على اليهود في الجليل والمثلث. والأخطر كانت التقارير الصحفية لوسائل الإعلام " الإسرائيلية " تعتبر هذه التحركات المدنية تهديداً جدياً للواقع السياسي للكيان العبري.
وقد عبر "يهودا آرئيل" مراسل صحيفة "هآرتس"، في مقالة له، عن عدم قدرته على فهم الأهداف التي يرمي إليها الإضراب ومن يقف وراء اتخاذه، فالإضراب يتناقض مع جميع الاعتبارات "العقلانية والأخلاقية"، ومع ما أسماه "العقل والأحاسيس والمصالح". والصحيفة ذاتها وفي عنوان تحريضي قالت: "الإضراب الهمجي" لنقابة العمال أنها لن تدافع عن العمال الفلسطينيين الذين شاركوا في الإضراب. في إشارة واضحة ألاّ توفر النقابة أية خدمات قانونية لهؤلاء العمال، بل دعت إلى فصلهم وطردهم من أعمالهم. وفي يوم الإضراب في الثلاثين من آذار عام 1976 أوردت "هآرتس" عنواناً يقول: " من يزرع الرياح لن يحصد إلاّ العاصفة"، ودعت رجال الأمن والجيش إلى ضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة ضد المشاركين في الإضراب.
أما المعاني الوطنية ليوم الأرض فهي تتمثل:
1- مثل حدثاً تاريخياً هاماً ومضيئاً في تاريخ الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني. وما تركه من أثر في بلورة الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني.
2- صياغة رؤية كفاحية وطنية لجموع الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية عام 1948. وبالتالي فشل الكيان في صهر الفلسطينيين في المجتمع الصهيوني.
3- التأكيد على فشل تمزيق الشعب الفلسطيني ووحدته أينما تواجد في الوطن والشتات. وهو المُصر اليوم على العودة إلى دياره التي هُجِّر منها قسراً عام 1948. مع تأكيده على رفضه للتوطين والتهجير.
4- المقاومة حق مشروع طالما كان المحتلّ جاثماً على الأرض الفلسطينية، وطالما أنه يواصل عدوانه على شعبنا الفلسطيني، ويحول دون عودته إلى أرضه فلسطين منذ العام 1948.
5- كشف المزيد من الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني، والأخطار التي تعمل عليها الحركة الصهيونية الهادفة إلى صبغ فلسطين بما يسمى "الدولة القومية للشعب اليهودي".
6- ستبقى الأرض محور الصراع العربي ـ الصهيوني مهما حاولوا في خفض سقفه وتحويله إلى نزاع بموجب "اتفاقات أوسلو" المشؤومة، واليوم من خلال الهرولة للتطبيع مع الكيان ونسج التحالفات على غير صعيد ومستوى.
7- مهما حاولت السياسة أن تعبث بحقائق التاريخ والجغرافية والديمغرافية، لكنها لن تستطيع دفنها، وإلغاءها من الواقع، وأن تمنعها من التكاثر.
وفي الخلاصة، فإن معركة الأرض لم تنته في 30 آذار 1976، بل هي مستمرة حتى يومنا هذا. ونستطيع القول أنّ كل الأيام الفلسطينية هي "يوم الأرض". ففي كل يوم تصادر حكومة الاحتلال العنصرية الأراضي الفلسطينية، وتبني المستوطنات، وتهدم المنازل وتُهجّر الفلسطينيين.
وبعد مرور ستة وأربعين عاماً على يوم الأرض يبقى السؤال المركزي المطروح، هل مازال الفلسطيني على ذات الإصرار في التمسك بأرضه، رغم اتفاقات "أوسلو" التي تم التنازل بموجبها عن 78 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية؟. ومع استمرار انخراط السلطة في مفاوضات عبثية لن تجلب سوى المزيد من تبديد وهدر للحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، لنقول وفي جواب قاطع حازم، أنّ الشعوب قد تستكين في مرحلة من المراحل، إلاّ أنها لا يمكن أن تتنازل أو تفرط مهما طال الزمن. فلم يكتب التاريخ أن شعباً قد فرّط، بل كتب أن قيادات قد فرّطت وتنازلت، والشاهد أنّ شعبنا الذي تمسك بأرضه ولم يبرحها العام 1948، هو ذاته الذي هبّ في يوم الأرض عام 1976. أي بعد ثمانية وعشرين عاماً على النكبة.
وذاته الشعب هو الذي فجر انتفاضته الأولى عام 1987، وانتفاضته الثانية العام 2000 "انتفاضة الأقصى" بوجه المحتل الغاصب. أي بعد مرور سبعة أعوام على اتفاقات "أوسلو" المذلة والمهينة، وهو نفسه الذي تحرك على كامل مساحة الجغرافيا الفلسطينية في معركة (سيف القدس) في أيار 2021 نصرة للقدس وأهلها، فقد هبّ شعبنا في عموم أراضينا المحتلة عام 1948، ومقاومتنا في قطاع غزة، والضفة الغربية.
شعبنا الفلسطيني الذي يتحفز اليوم الذهاب نحو انتفاضة ثالثة، من خلال ما تشهده ضفتنا الغربية المحتلة بما فيها القدس من تصاعد أعمال المقاومة، وليس أخرها العملية البطولية التي نفذها الشهيد محمد أبو القيعان في عمق أراضينا المحتلة عام 1948 في بئر السبع المحتل، إلاّ التباشير لهذه الانتفاضة. فشعبنا الذي تمرّس النضال والكفاح، الأرض بالنسبة إليه فعل إيمان وعقيدة، وفعل إرادة ومقاومة.