أقلام الثبات
يُحيي الشعب الفلسطيني في الثلاثين من آذار من كل عام، ذكرى يوم الأرض تخليداً لذكرى ستة فلسطينيين ارتقوا شهداء، رداً على مصادرة الاحتلال الصهيوني 21 ألف دونم من أراضينا المحتلة في الجليل والمثلث والنقب. تلك الذكرى التي حولها شعبنا يوماً للتأكيد على تمسكه بأرضه فلسطين، وعدم التسليم والإذعان إلى إجراءات وسياسات الكيان الصهيوني الهادفة إلى الاستيلاء على الأرض وطمس هويتها الفلسطينية، ومن ثم القول ألّا حقوق للفلسطينيين على أرضهم، التي تسعى الحركة الصهيونية إلى فرض كيانها المصطنع عبر ما يسمى ب "الدولة القومية للشعب اليهودي".
لقد شكّل يوم الأرض قبل 46 عاماً، منعطفاً ومعلماً جديداً في سياق النضال الوطني للفلسطينيين في المناطق المغتصبة في العام 1948، على اعتبار أنهم وعلى مدار 28 عاماً من عمر النكبة وحتى اندلاع مواجهات يوم الأرض، قد انتهجوا سياسة مواجهة الاغتصاب الصهيوني بوسائل وطرق النضال الصامت أو النضال السلبي إذا ما جاز التعبير، وهذا له أسبابه في حينه، حيث أكد شعبنا في هذا اليوم المجيد على أنهم أصحاب الأرض، والوطن وطنهم. وهو إعلان عن الإرادة الوطنية الفلسطينية المتمسكة بأرضها، ومن حقها أن تمارس حقوقها الكاملة وغير المنقوصة على كامل ترابها الوطني. فقد أتى يوم الأرض في سياق الرد الطبيعي على السياسة الاستيطانية الصهيونية، من قبل جموع الشعب الفلسطيني في مدن وقرى أرض فلسطين التاريخية، وبالتالي رد على جملة التحديات التي كان يحاول الكيان الغاصب فرضها على الفلسطينيين بعد النكبة العام 1948.
هبّة الأرض الفلسطينية في الثلاثين من آذار عام 1976 ليست مصادفة أو وليدة لحظتها، بل جاءت تعبيراً عن سياق طويل عمره من عمر النكبة، من الممارسات العنصرية التي انتهجها الكيان الغاصب بحق الفلسطينيين، طمساً لهويتهم الوطنية، والاضطهاد والتهميش.
اعتبرت الحركة الصهيونية أن الأرض الفلسطينية يجب أن تكون ركيزتها الأولى لإنجاح مشروعها الاستيطاني، وهذا ما أشارت إليه أدبيات الحركة الصادرة عن المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م في بال بسويسرا. وحسب المفاهيم الصهيونية، لجأ الصهاينة ومن أجل الحصول على الاستيلاء على الأرض الفلسطينية عبر: -
1. القوة العسكرية والاغتصاب وارتكاب المجازر.
2. مصادرة الأراضي قسراً، وهذا ما مارسته حكومة الانتداب البريطاني، ومن ثم الكيان الصهيوني.
3. شراء الأراضي بشتى الطرق والأساليب. وعليه قامت المعادلة لحكومة الاحتلال الصهيوني في تعاملها مع شعبنا في مناطق في فلسطين التاريخية عام 1948 بـ (أرض أكثر وعرب أقل).
وبهدف الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين أعدَّ ما يسمى ب "متصرف لواء المنطقة الشمالية يسرائيل كونيغ" في الأول من أذار عام 1976 وثيقة سرية، سمّيت فيما بعد باسمه، تستهدف إفراغ الجليل من أهله الفلسطينيين وتهويدها. وقُدِّمت الوثيقة كتوصيات إلى حكومة الكيان الصهيوني، وتم اختيار عنوان للوثيقة وهو: "مشروع مذكرة معاملة عرب إسرائيل". وقد حذر فيها من ازدياد تعداد الفلسطينيين في اللواء الشمالي، والذي أصبح مساوٍ تقريباً لعدد المستوطنين في حينه، وأنه خلال سنوات قليلة سوف يصبح الفلسطينيون أكثرية سكانية، الأمر الذي يشكل خطراً جسيماً على الطابع اليهودي للكيان الصهيوني. الوثيقة العنصرية التي قدمها كيونيغ تضم عشرات الصفحات، دعا فيها إلى تقليل نسبة الفلسطينيين في منطقتي الجليل والنقب، وذلك بالاستيلاء على ما تبقى لديهم من أراض زراعية وبمحاصرتهم اقتصادياً واجتماعياً، وبتوجيه المهاجرين اليهود الجدد للاستيطان في منطقتي الجليل والنقب. ومن أهم بنود الوثيقة: -
1. تكثيف الاستيطان الصهيوني في الشمال (الجليل).
2. إقامة حزب عربي يعتبر "أخاً" لحزب العمل ويركز على المساواة والسلام.
3. رفع التنسيق بين الجهات الحكومية في معالجة الأمور العربية.
4. إيجاد إجماع قومي يهودي داخل الاحزاب الصهيونية حول موضوع العرب.
5. التضييق الاقتصادي على العائلة العربية عبر ملاحقتها بالضرائب وإعطاء الأولوية لليهود في فرص العمل، وكذلك تخفيض نسبة العرب في التحصيل العلمي وتشجيع التوجهات المهنية لدى التلاميذ.
6. تسهيل هجرة الشباب والطلاب العرب إلى خارج البلاد ومنع عودتهم إليها.
وهذه الخطة كانت كفيلة بمصادرة عشرين ألف دونم من أراضي الفلسطينيين حسب ما خططت له حكومة الكيان الاحتلال الغاصب بهدف خلق تغيير ديمغرافي لصالح اليهود على حساب الفلسطينيين. وهذا ما ذهبت إليه نشرة وزارة الزراعة الصهيونية عام 1975 والتي ذكرت "إن هناك مشكلة خاصة في الجليل، هي أقلية السكان اليهود بالنسبة للأقليات غير اليهودية، والتي تؤلف 70% من مجموع السكان". وبذلك كشفت هذه النشرة عن الأهداف الحقيقية لما سمي زيفاً خطة "تطوير الجليل". وقد مهدت سلطات الكيان الطريق لذلك بسلسلة واسعة من القوانين التي تمس بالمباشر الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم. ومن أبرزها: -
- قانون الأراضي (الاستملاك للمنفعة العامة) لسنة 1943
- أنظمة الطوارئ بشأن فلاحة الأراضي البور واستعمال مصادر المياه غير المستغلة لسنة 1948
- أنظمة الطوارئ لسنة 1945. خصوصاً المادة 125 التي استعملت لإغلاق مناطق معينة ومنع العرب من دخول أراضيهم
- قانون وضع اليد على الأراضي في حالات الطوارئ لسنة 1950
- قانون أملاك الغائبين لسنة 1950
- قانون سلطة التطوير (نقل أملاك) لسنة 1950
- قانون أملاك الدولة لسنة 1951، قانون صندوق أراضي " إسرائيل " لسنة 1953
- قانون وضع اليد على الأراضي (تعليمات مؤقتة) لسنة 1956
- قانون أراضي " إسرائيل " لسنة 1960
- قانون أراضي " إسرائيل " لسنة 1960
- قانون الغابات لسنة 1962
- قانون تسوية الحقوق في الأراضي لسنة 1969
- قانون استملاك الأراضي في النقب (اتفاقية السلام مع مصر) لسنة 1980
- قانون العودة الذي يمكن يهود العالم المجيء إلى فلسطين 1950. وعُدل في العام 1970 ليشمل أصحاب الأصول اليهودية وأزواجهم.
وقد نتجّ عن تكثيف الصهاينة لمصادرتهم للأراضي الفلسطينية منذ نكبة عام 1948، حيث مثلت الذروة لهذه المصادرات ما أقدمت عليه حكومة الكيان الصهيوني في التاسع والعشرين من آذار العام 1976 من وضع اليد على الآلاف من الدونمات في مناطق الجليل الفلسطيني في سخنين وعرابه ودير حنا وعرب السواعد. علماً بأن السلطات الصهيونية، كانت قد صادرت منذ العام 1948 وحتى العام 1972 أكثر من مليون دونم من أراضي القرى العربية في الجليل والمثلث، إضافة إلى ملايين الدونمات الأخرى التي استولت عليها عام 1948.
بعد إصدار ما يسمى بوزير جيش الاحتلال "إسحاق رابين" في العام 1976 قراره بمصادرة حوالي 21 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية التي تعود لبلدات دير حنا، سخنين وعرابة في منطقة الجليل، اتضح أن هدف خطة " تطوير الجليل " هي المزيد من الاستيلاء على الأرض الفلسطينية في مناطق الجليل والمثلث. تنادى أصحاب الأراضي وبمبادرة من الناشطين والمثقفين والمحامين والصحافيين والأطباء، إلى جانب رؤساء المجالس المحلية، إلى عقد اجتماع بهدف بحث السياسات الصهيونية الاستيطانية للأراضي الفلسطينية، ومخاطرها على الهوية الوطنية الفلسطينية. وفي نهاية الاجتماع اتفق على تشكيل لجنة للدفاع عن الأرض أطلق عليها "اللجنة الوطنية للدفاع عن الأراضي". والتي عقدت اجتماعها الأول قاعة فندق "غراند نيو" في الناصرة في أب 1975، وكان من مقرراتها الدعوة لمؤتمر شعبي يطالب بوقف مصادرة الأراضي، وإلى إصدار نداء موجه إلى الرأي العام لحمله على مواجهة ومقاومة مصادرة الأرض الفلسطينية. وفي السادس من آذار 1976 دعت اللجنة الوطنية إلى عقد اجتماع آخر في الناصرة، حضره العديد من رؤساء المجالس المحلية، الذين اتخذوا قراراً بإعلان الإضراب العام يوم الثلاثين من آذار عام 1976 شجباً واستنكاراً لمصادرة أراضي الفلسطينيين العرب. وطالب "صموئيل طوليدانو" مستشار ما يسمى رئيس الحكومة آنئذٍ، الاجتماع إلى أعضاء اللجنة الوطنية لمؤتمر رؤساء المجالس المحلية، في محاولة يائسة منه لإقناع أعضاء اللجنة بالموافقة على مشروع مصادرة الأراضي، مدعياً أن المشروع يهدف إلى تطوير قراهم. فسارعت سلطات العدو الصهيوني في 29 آذار 1976 إلى إعلان حظر التجول، وأعلنت أن جميع المظاهرات غير قانونية، وهددت بإطلاق النار بهدف منع تنفيذ الإضراب.
رغم التهديدات من قبل كيان الاحتلال فقد عمّ الإضراب كل التجمعات السكانية الفلسطينية من الجليل شمالاً، إلى النقب جنوباً، وخرجت المسيرات العارمة المنددة والرافضة لقرار مصادرة الأرض. فكان رد العدو لكسر الإضراب، بالوسائل العسكرية بقيادة الجنرال "رفائيل إيتان"، إذ اجتاحت قواته القرى والبلدات العربية الفلسطينية، وشرعت بإطلاق النار عشوائياً، ليرتقي ستة شهداء أربعة منهم قتلوا برصاص الجيش، واثنان برصاص الشرطة، وأصيب العشرات بجراح.
وفي يوم الإضراب المعلن، هبّت الجماهير الفلسطينية لتعم التظاهرات والمواجهات عموم مناطق فلسطين التاريخية العام 1948 في انتفاضة شعبية عارمة، حيث شهدت العديد من القرى والمناطق مواجهات عنيفة في كل من مجد الكروم ونحف وقرية الرامة وقلنسوة وكفر قاسم وكسرى وباقة الغربية، الطيرة ودير حنا وطمرة وقرية الطيبة وقرية كفر كنا وقرية سخنين وعرابه ودير الأسد شفا عمرو. يومها هتف توفيق زياد قائلاً " كفى قتلاً.. كفى مصادرة.. كفى تمييزاً.. كفى تمادياً في الاستهتار بهذا الشعب".