أقلام الثبات
سقطت مواعيد الشعوذات الأميركية المتنبأة بموعد الغزو الروسي المزعوم لأوكرانيا، وسط ضباب كثيف من "البروباغندا" الغربية–الأطلسية. وتكرست صدقية النفي الروسي لوجود نية بالغزو، من دون أن يهدأ بال العالم إلى مرور هذا "القطوع" النووي الكارثي بسلام، طالما أن نوايا التوسع والتصارع على النفوذ وعلى خيرات باطن الأرض مستمر بين الدول الكبرى. وقد تنتقل ساحة المبارزة إلى مكان آخر لا يتحمل مثل هذا الشد والجذب الذي شهدناه، فيدفع الكون كله ببشره وحجره وانجازاته الثمن، ساعة لا ينفع الندم.
مرّ يوم الأربعاء، الذي حدده الرئيس الأميركي جو بايدن موعداً لغزو روسيا لأوكرانيا. ولم يحدث الغزو، بل سبقه تراجع عسكري وسياسي أميركي وأطلسي، ترك أوكرانيا لوحدها فريسة أوهام سرعان ما تبخرت، بعدما ظنت أن طلبها الإنضمام إلى حلف "الناتو" سيخيف روسيا ويجعلها تتخلى عن حلفائها الأوكران، في منطقتي دونيتسك ولوهانسك ذات الحكم الذاتي، في إقليم دونباس، أو تعيد شبه جزيرة القرم، التي استعادتها من أوكرانيا عام 2014 .
هي تجربة تعرضت لها كل الشعوب التي وقعت ضحية السياسات الأميركية والغربية، التي لا ترى في العالم إلا مواد خام يجب الإستحواذ عليها، أو بلاداً يجب إستتباعها واستغلالها، أو جغرافيا مناسبة لنشر قواعد عسكرية عليها لحصار روسيا أو الصين، أو أي بلد يتمرد على الهيمنة الأميركية والغربية. وهذا هو حال أوكرانيا، الذي أوصلها إلى واقعها البائس.
نسي الأميركيون وأتباعهم الأطلسيون ما حدث للمجر عام 1956، التي دخلتها جيوش حلف وارسو ووأدت محاولة تغريبها عن حلفائها السوفيات. كما نسوا "ربيع براغ" التشيكوسلوفاكية عام 1968، الذي تكرر فيه مشهد الدبابات الروسية في شوارع بودابست.
استعظم الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون "إنجازاتهم"، التي استغلوا فيها تفكك الإتحاد السوفياتي وضعف الدولة الروسية العابر، فنفذوا "ثورات ملونة" إنتزعوا فيه بلداناً عدة كانت حليفة لروسيا. كما نفذوا "ربيعاً" عربياً كان درساً بأن من يلحق الغراب الأميركي، الذي يصور نفسه زوراً على شكل نسر، سيوصل إلى الخراب والدمار. وهذا ما حصل في كل البلدان العربية التي زارها الربيع المزعوم، الذي تبين أنه ربيع عبري بامتياز، لم تحصد فيه غير الكوارث والمحن، في اليمن وسورية ومصر وتونس وليبيا وغيرها.
حتى أن لبنان لم ينجو من هذا "الربيع" فاذا هو خريف حقيقي، حاولت فيه الجمعيات الممولة من الدول الغربية واستخباراتها وسفاراتها، قلب الأمور وتزويرها. ولو كانت صادقة لما إنكفأت عندما احتاجها اللبنانيون للوقوف معهم في حرب الإفقار والتجويع التي تشن عليهم، بهدف إخضاع لبنان للشروط الأميركية و"الإسرائيلية" التي توصله إلى التفريط بأرضهم وثروته وسيادته وبتركيبة مجتمعه؛ وصولاً إلى اللحاق بطابور الذل العربي المنبطح على أعتاب كيان الإحتلال الصهيوني.
تورطت أوكرانيا مع الغرب في لعبة لحصار روسيا وتهديدها في عمقها الإستراتيجي. فكان أن رد الروس بشكل هادىء ومركّز جعل الغرب يتراجع هلعاً، فتحولت تهديدات الرئيس الأميركي بايدن إلى سحب لجنوده من أوكرانيا. ومعهم موظفي سفارته فيها. وإلى إعلانه أنه لن يسمح بحرب مع الجيش الروسي لأنها ستكون حرباً نووية. كما سكتت أصوات التهديد البريطانية والفرنسية؛ وسارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى زيارة موسكو لتهدئة خاطر رئيسها فلاديمير بوتين. وكذلك فعلت وزيرة خارجية بريطانية، بعد أن صنع الجميع "بروباغندا" بان الغزو الروسي آت لا محالة، مما دفع معظم الدول إلى دعوة رعاياها لمغادرة اوكرانيا، التي دفعت ثمنا باهظاً من إقتصادها وأمنها، نتيجة هذه الحماقة. حتى أن مسؤوليها بادروا إلى محاولة تخفيف التوتر ونفي حتمية حصول غزو روسي لبلادهم. ووصل الأمر بسفير اوكرانيا في لندن، إلى القول: قد نتخلى عن طلب الانضمام الى حلف "الناتو" لتفادي حرب مع روسيا.
أخطأ الأميركيون الحساب، فهم ظنوا أن الإستفزاز الأوكراني لروسيا بإعلان نية الإنضمام إلى حلف "الناتو" سيدفع روسيا إلى إحتلال أوكرانيا. مما يورطها بحرب تشبه تجربة البلدين في افغانستان، أو بحال الأميركيين في العراق. لكنهم نسوا أن موسكو أنجزت ما تريده من أوكرانيا، عندما أحدث الغرب إنقلاباً في كييف على حلفاء الروس عام 2014. فانفصل مؤيدوهم عن كييف. واستردت روسيا شبه جزيرة القرم. وهي في دعمها لهؤلاء قادرة على تأديب حلفاء الغرب في أوكرانيا، من دون غزوها بجيشها. وهذا ما جعل الروس على ألسنة كبار مسؤوليهم يؤكدون ويكررون أنهم لا يريدون الحرب ولا غزو أوكرانيا.
حتى العقوبات الإقتصادية التي يهدد بها الغرب موسكو، لم تعد الأخيرة تبالي بها. وقد إعتبر سفيرها في السويد فيكتور تاتارينتساف أن لتلك العقوبات تأثير إيجابي على روسيا، لأنها جعلتها تزيد من إعتمادها على ذاتها وعلى صناعاتها. بل اعطت نتاجاً عكسياً حيث زادت صادراتها.
ولا يخفي مراقبون أن الغرب تعاطى بجهل مع الأزمة الأوكرانية. وهو مضمون مقالات كثيرة نشرت، أشار فيها كتابها، على سبيل المثال، إلى جهل وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس في الجغرافيا الروسية والأوكرانية، بحيث إضطر نظيرها الروسي سيرغي لافروف إلى تقديم شرح مدرسي لها في جغرافيا البلدين، إضافة إلى وصف لقائه معها بأنه حوار طرشان.
والغرب هو الذي ضغط على روسيا واستفزها بتسليح أوكرانيا؛ وبمحاولة ضمها إلى حلف الأطلسي وحشد جيوش أطلسية فيها. في حين أن روسيا، حسب إعلامها، تريد دفع أوكرانيا إلى تنفيذ إتفاقية مينسك التي سبق ووقعت عليها، لوقف الإقتتال في شرق أوكرانيا، بين العناصر الموالية لروسيا والقوات الأوكرانية. والإتفاقية تعطي منطقتي دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس، حكماً ذاتياً مؤقتاً. فيما تسعى أوكرانيا للتراجع عن هذا الإتفاق وإعادة ضم المنطقتين بالقوة، ما دفع مجلس الدوما الروسي إلى الموافقة على الإعتراف باستقلالهما، كعقوبة إضافية لكييف. كما أن محاولة إعادة ضمهما بالقوة ستعني حرباً لا نهاية لها، قد تورط القوى الكبرى في نيرانها. وروسيا حشدت قواتها لمنع كييف من غزو دونيتسك ولوهانسك؛ ولا حاجة لها لغزو أوكرانيا. وهذا ما يكرره المسؤولون الروس يومياً.
ومن الواضح أن تفاهماً أميركياً- روسيا سيعقب هذا التوتر. فأوروبا فشلت في ضمان تنفيذ أوكرانيا لاتفاقية مينسك. وبالتالي فشلت الدول الأوروبية في أن تكون لاعباً دولياً بعيداً عن الوصاية الأميركية. وروسيا تفضل التفاوض مع واشنطن، طالما أن الأخيرة هي التي تقرر عن أوروبا في القضايا الحيوية؛ وهي التي ستقاتل عنها إذا تفجر الصراع. وقد نجحت موسكو في وضع حدود لتوسع حلف "الناتو". وأوضحت بأن اقترابه أكثر من حدودها هو نذير حرب كبرى.
ومن الواضح أن الرئيس الروسي بوتين، لعب بأعصاب الزعماء الغربيين؛ وتركهم يعيشون أسابيع على أعصابهم. وأجبرهم على الإنكفاء السياسي والعسكري. فيما كانت قواته تنفذ مناورات واسعة في البحار والمحيطات القريبة من روسيا والبعيدة عنها، وصولا الى قاعدة حميميم البحرية والجوية في سورية، في رسالة قوية للأوروبيين والأميركيين بأن حصار روسيا صعب أو مستحيل. لكن من يضمن أن صراعاً مماثلاً سينتهي على مثل هذا الحال؛ ولن يتسرع فيه أحد الأطراف فيطلق الطلقة الأولى، التي ستكون صاروخاً نووياً على الأرجح، في حرب كونية مؤجلة.