أقلام الثبات
يعمّ التأزم كل مظاهر الحياة في لبنان. الإنسان في لبنان مأزوم. مؤسساته مأزومة. وهياكل الدولة مأزومة بدورها، بعد أن نخرها الفساد. فقط يبدو تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف خارج هذا التأزم، فمن أفسد العباد ونهب البلاد وراكم الثروات وهرّب أمواله إلى الخارج، كيف له أن يتحسس من الأزمة التي يعيشها اللبنانييون، الذين باتت أغلبيتهم تحت خط الفقر وتعاني الجوع وذلّ الحاجة.
وتتشابه إلى حد التطابق أفعال النظام اللبناني، بأفعال مرض السرطان الخبيث بأجساد ضحاياه. فما يعاني منه اللبنانيون ناتج عن تآكل داخلي وذاتي، بفعل تصارع مرجعيات الطوائف وأصحاب المال على السلطة والثروة والنفوذ، حتى وإن غلف ذلك زوراً بأكاذيب، مثل حروب الآخرين على أرضنا وغيرها من تخرصات أرباب النظام، فالحروب اللبنانية المعهودة، تجري بأيدي لبنانيين والضحايا منهم؛ وما على الخارج إلا تأمين الدعم والتمويل.
وعبثاً يبحث اللبنانيون عن مخرج لهم من هذا النظام القاتل، الذي يشهد إنهياراً كاملاً هذه الأيام. فهو نظام فريد في تركيبته وفي آلية تجديده لخلاياه العدوانية، لأنه نتاج مزرعة طوائف قامت على التمييز والمحاصصة. يقودها متزعمون جشعون يعرفون أن قوتهم مستمدة من دعم الخارج لهم، بعد أن يبرزوا له جدارتهم في إحتواء جمهورهم الطائفي وإستثارة غرائزه؛ وتسييره في الطريق الذي يامرهم بالسير فيه، بما يخدم خطط دول وقوى الهيمنة العالمية، التي رسمت خريطة المنطقة وصنعت أنظمتها وقولبتها، بما يخدم مصالح الخارج ويبقي الداخل مشغولاً بالفتن والصراعات. وهذا هو حال الكيان اللبناني منذ أن أنشأه الفرنسيون، من دون إستشارة معظم سكانه، بل ورغماً عن قسم كبير منهم. وكان الحكم فيه، حسب وصف الراحل كمال جنبلاط له: "ضابط ماروني ومساعد رتيب سني وبقية الطوائف عسكر". وكأن ذلك الرجل الكبير أنف من القول أن بقية الطوائف هم عمال مياومون، يمكن طردهم من أرض "مرقد العنزة" إذا شاء الأقوياء ذلك.
لذلك ومنذ ولادة هذا الكيان ومعه نظامه السياسي، يشهد لبنان حروباً وصراعات دموية كل 10/15 عاماً، تتقاتل فيها الطوائف، التي تسمي نفسها زوراً قوى وأحزاباً سياسية، تحت شعارات براقة: مرة على الدور والموقع؛ ومرة على الهوية؛ ومرة على تحديد من هو العدو ومن هو الصديق؛ ومرات على المشاركة. لكن في كل المرات كان الخلاف تعبيراً عن صراع بين الطوائف على المحاصصة في السلطة والثروة والنفوذ؛ وعلى تراتبية الإمرة في خدمة الخارج ومشاريعه.
وعلى الرغم من تكرار فصول الأحداث مع تغيّر الوجوه، إلا أن اللبنانيين لم يتعلموا أن يمسكوا زمامهم بأيديهم، ليكون القرار لهم ولخدمة مصالحهم. فهم اليوم عرضة لحملات التضليل والتشويه، التي تبعدهم عن التفكير الصائب في البحث عن حلول ومخارج لأزماتهم. وأبلغ دليل على عمق هذه الأزمات، أن مؤسسات النظام والكيان الأساسية، باتت تتسابق في تقديم نفسها كوسيلة للحلّ وأداة للإصلاح وبديل عن أدوات الحكم القائمة. وهكذا شاهدنا من يقول أن الحاكم بأمر المال رياض سلامة، ساهم ورعى الفساد المالي والمصرفي بهندساته المعروفة؛ طمعاً منه في تذكية سياسية وطائفية توصله إلى كرسي الرئاسة في بعبدا. ثم رأينا القائلين بأن الجيش هو الحلّ، في ترداد صدى لزيارات قائد الجيش جوزيف عون إلى واشنطن؛ ولقاءاته الدائمة مع السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا؛ وجولاته معها على المناطق؛ ومرافقته لها في زياراتها وتفقدها لشؤون الرعية اللبنانية، بما يتناقض مع دورها كسفيرة ويتعارض مع صلاحياتها المحكومة بالتنسيق مع وزارة الخارجية. وها نحن نسمع هذه الأيام أصواتاً تقول إن القضاء هو الحلّ، بعد أن أدى القضاء دوراً لافتاً، إبتداء من واقعة فبركة شهود الزور في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ وكذلك التورط بسجن الضباط الأربعة، الذين برأهم القضاء الدولي؛ وصولاً إلى التلاعب الحالي في تحقيقات إنفجار مرفأ بيروت، التي لم تلق أجوبة حول سبب تأخير صدور القرار الظني فيها. وكذلك عن سبب تجهيلها الفاعل وتركيزها البحث عن المهملين وأصحاب الأدوار الثانوية في التسبب بحدوث تلك الكارثة، بدلاً من كشف من استورد المواد المتفجرة ومن أدخلها إلى المرفأ ومن أمر بتخزينها.
كل ذلك يبين مدى الإهتراء الذي أصاب هذا النظام، بل وأصاب الكيان ذاته. فهل وصل اللبنانيون إلى قناعة بأن الشحاذة من دول "الرعاية" التي تعامل لبنان كقطيع، ليس هو الحلّ لأنه لا يبني لهم دولة، بل أن الحل الوحيد الناجع، هو بالعودة إلى الشعب واخذ القرار منه عبر إستفتاءات يحدد فيها مصيره وخياراته وحكامه، فيكون ذلك مدخلاً لتحفيز روح الإنتماء الوطني لديهم، بدلاً من الهجرة هرباً من واقع سرطاني شعار حكامه التسول لتمويل مزرعة لا تملك مقومات الحياة.