أقلام الثبات
إذا كان اللبنانيون قد شهدوا في مرحلة "اتفاق الطائف" توسعاً في تأسيس الجمعيات الأهلية والثقافية والاجتماعية يرأسها ويشرف عليها مقربون جداً من كبار المسؤولين، تتلقى دعماً رسمياً هاماً، فإن هذه الجمعيات توسع تفريخها باستمرار، وأصبحت تنبت كالفطر مع اندلاع الأحداث السورية، بذريعة دعم ومساعدة النازحين، وكانت تقدم للنازحين من "الجمل أذنه".
هذه الجمعيات التي تندرج وفق التعبير الغربي، تحت عنوان "المجتمع المدني"، تنوعت وتعددت أشكالها وأنواعها وألوانها بعد 17 تشرين الأول 2019، حيث فرخت العديد من الجمعيات التي يقوم دورها على إيهام الغاضبين من الفساد والانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي، بأنها تسعى إلى التغيير، وهي في حقيقتها أدوات سياسية تابعة للخارج الاميركي والغربي، وهكذا رأينا هذه الجمعيات بأسماء مختلفة، تنتشر كالنار في الهشيم في سوق "المساعدات" التي أوكلت إليها واشنطن والدول الغربية توزيعها الذي يتم على عدد من الناشطين التابعين لهذه الجمعيات، وباتت واشنطن وعواصم القرب تعلن أن مساعداتها ستكون "للمجتمع المدني" وليس عبر الدولة.
والمفارقة أن هذه الجمعيات في لبنان لا تخضع إلى الرقابة المالية ولا إلى شفافية الميزانية وشفافية البرامج والضرائب والمداخيل. فهي في هذا السياق جزء لا يتجزأ من فساد الطبقة السياسية التي تخفي وظيفتها ومداخيلها في الخلط المشبوه بين العمل الخاص والعمل العام، فضلاً عن الترويج لنفسها بأنها "جمعيات مدنية" تطوّعية من دون مقابل مالي، لكن دايفيد هيل فضحها بإعلانه عن مليارات الدولارات التي قدمتها واشنطن لهذا "المجتمع" الزائف.
| جمعيات "المجتمع المدني" صارت جزءاً من فساد الطبقة السياسية |
وجمعيات "المجتمع المدني" في لبنان هي جزء لا يتجزأ من عمل المنظمات "غير الحكومية" التي اعتمدتها الدول الغربية في العمل للقضاء على دور الدولة وعلى الاستقرار الأمني والاجتماعي. فقد مهّدت "للثورات الملوّنة" في أوروبا الشرقية، وتمهّد الطريق أمام حروب التفتيت في بلدان مختلفة من أجل تحويل البلدان إلى سوق تجارية حرّة وتحويل المواطنين إلى مستهلكين.
المؤسسات والحكومات الأميركية والأوروبية تتوافق في لبنان على تمويل المنظمات "غير الحكومية" وتمويل جماعاتها، من أجل الاحتفاظ بالسياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية الناتجة عن اتفاق الطائف التي تبنّتها الحكومات في لبنان طيلة عقود.
على أساس هذا التوافق لم يصوّب الناشطون ومن ضمنهم "منصّات الحراك" وحتى منصّات التيارات السياسية، على منبع الخراب والانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي في هذه السياسات نتيجة مصلحة الطبقة السياسية الفاسدة في تبعيتها لوصايا صندوق النقد والبنك الدوليين و"الدول المانحة" في مؤتمرات باريس وغيرها عبر "المستشارين والتكنوقراط" في الحكومة والوزارات.
أمام هذه اللوحات السوداء المعتمة عن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد، هل من عجب أن تقوم الأسواق السوداء، او ما يسمى "الاقتصاد التحتي"؟، مع أنه غالبا ما تلجأ الدول إلى فرض عقوبات قاسية متنوعة على المشاركين في أعمال ونشاطات السوق السوداء، مثل عقوبة السجن، ومصادرة المواد والبضائع المضبوطة، وغرامات مالية تبلغ أضعاف القيمة الأصلية للبضاعة وذلك بهدف القضاء على هذه السوق، لأنه للسوق السوداء أضرار وعواقب مالية واقتصادية كبيرة على الاقتصاد الوطني للدولة. من هذه العواقب نقص العوائد الضريبية للدولة وانتشار نوع من الفوضى الاقتصادية المنظمة، مما ينعكس سلبا على مستوى الإنفاق الحكومي في المجالات الاجتماعية والإنتاجية، وعلى مستوى الحياة الاجتماعية.
| السوق السوداء يزداد حجمها في المجتمعات التي يكون فيها فساد أكبر |
علماً أن "السوق السوداء" هي السوق التي تتكون من كل التعاملات التجارية التي يتم فيها تجنب كل القوانين الضريبية والتشريعات التجارية. وفي المجتمعات الحديثة يغطي الاقتصاد التحتي مجموعة واسعة من النشاطات. و يكون حجم السوق السوداء أصغر في الدول التي تكون الحرية الاقتصادية أكبر، ويزداد حجمها في المجتمعات التي يكون فيها فساد أكبر.
لم يقتصر السوق السوداء في لبنان على سوق العملات وحسب، بل تعداه إلى التلاعب بالأسعار على شتى السلع من المحروقات إلى المواد الغذائية وعلى أكثر من صعيد.. حتى وصل إلى سوق الأوراق الثبوتية وتحديداً إلى إخراجات القيد اللبنانية.
والعجيب أن "الأسوق السوداء" في لبنان صارت هي المحدد للأسعار أمام المواطن بما فيه حبة الدواء والرغيف.
لقد فتحت أبواب الأسواق السوداء على مصراعيها في لبنان، دون أي تدخل رسمي يضع حداً لأوسع عمليات النهب التي يتعرض لها اللبنانيون الذين تدهورت حياتهم، وصار معظمهم على مستوى وتحت خط الفقر.
والأنكى أن كل من يملك وسيلة عمل يحل أزمته على حساب المواطن اللبناني، من سائق سيارة الأجرة أو الفان، إلى محل السمانة، إلى كبار التجار والمتمولين.
وكثير من القرارات الرسمية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي صارت تتخذ على "مقياس" السوق السوداء، وهكذا صرنا نجد لسعر صرف الليرة، عدة أسعار وفق قرارات مصرف لبنان، فصار للدولار الأميركي نحو خمسة أسعار رسمية: 1500 ل.ل، 3900 ل.ل، 8 آلاف، 12 ألف، إضافة إلى سعر السوق السوداء.
بشكل عام، في كل أزمة مرَّ بها لبنان منذ نشوئه قبل مئة عام حتى اليوم، ثمة من يجيد اللعب ويعرف كيف يكدس الثروات، وخصوصاً المصارف، ففي الثلاثاء 29 آذار 1994، كتبت وول ستريت: "صرح لنا مصطفى رازيان الذي يعمل عند الحريري منذ 16 سنة، ويدير مصرفين من مصارفه فقال: "بعنا الدولار خلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد تشكيل حكومة الحريري (تشرين الثاني 1992) وحققنا بذلك ثروة".
| المصارف تعرف يوماً بيوم أسرار الدولة اللبنانية |
ولعل أول المستفيدين من التطورات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية هي المصارف التي تعرف يوماً بيوم أسرار الدولة اللبنانية على حد تعبير الوزير الأسبق الراحل هنر إده، وهي دائماً لها وجود في الحكومات اللبنانية المتعاقبة..
حمى الله لبنان
(انتهى)