أقلام الثبات
لا تصلح الماشطة ما أفسده الدهر. هذا في القول المأثور. فكيف إذا كانت تلك الماشطة قوى حاكمة، تساهم في تخريب ما ابدع الخالق من خير وجمال.
هذا هو حال لبنان مع المتصارعين على حكمه، العاملين على الإستفراد في قراره، من فوق رؤوس بقية اللبنانيين عنوة، او من تحت أقدامهم غفلة.
أما الصراع في هذه المرحلة، فيدور بين طرفين يتنازعان على من يمسك بناصية وقرار الحكومة الجاري تشكيلها، لتحل محل حكومة حسان دياب المستقيلة، إستباقاً للجاري من الإستحقاقات.
طرفان يتأبط كل منهما مشروعاً للهيمنة على حكم لبنان واحتكار السلطة فيه، مما يبدد كل أمل بوقف إنهياره على أياديهما. طرف أول يحلم ويعمل على إستعادة صلاحيات خسرها في إتفاق الطائف. وطرف ثان يعمل لتوسيع ما حصله في "الطائف"، تلبية لأجندة لا علاقة لها بلبنان ودوره.
يتجاهل الطرف الأول أن ما خسره جاء بعد حروب داخلية ضروس، فتكت بالبشر والحجر. وهجرت نسبة عالية من اللبنانيين إلى بلاد الله الواسعة. وهو يعلم أن مسعاه هو مشروع حرب وليس طريقاً لبناء دولة، لأن إعادة البلد إلى ما قبل الطائف، تعني أن لبنان سيعود محكوماً، كما كان الراحل كمال جنبلاط يقول، من قبل: "ضابط ماروني ورقيب سني، فيما بقية اللبنانيين مجرد عساكر يطيعون الأوامر؛ ويقبلون بما يوزع عليهم من فتات الحكم وخيرات البلد". وإلا يعتبرون خارجين على القانون. علماً أن إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، لتعود الحكومات ورؤساؤها مجرد معاونين لرئيس الجمهورية، أمر بات مستحيلاً دونه خراب ودماء.
أما الطرف الثاني، الممثل بتجمع رؤساء الحكومات السابقين، الذي لا يخفي تبعيته لسياسات المملكة السعودية، فهو محكوم طوعاً أو جبراً، بتنفيذ أجندة السعودية في لبنان، التي رسمت إثر تسلم المملكة زمام النظام العربي، بعد تخلصها من جمال عبد الناصر ومن معظم القوى التقدمية والثورية، في مختلف الساحات العربية.
هذا الطرف، محكوم بتنفيذ رغبة سعودية برزت بقوة، مع هبوط الحريرية السياسية "بالباراشوت" على لبنان، تقضي بالإمساك بالقرارين السوري واللبناني، تعويضاً عن خسارة المملكة للقرار في العراق، بعد أن ضحت السعودية بحليفها صدام حسين وحزب البعث- فرع العراق، إثر تحريض ولي العهد السعودي، آنذاك، الأمير فهد بن عبد العزيز، لصدام وإغداقه الوعود السخية عليه، لكي ينقلب على سيده أحمد حسن البكر؛ ويستولي على الحكم في العراق، ليشن بواسطته حرباً مدمرة ضد الثورة الإسلامية الوليدة في إيران، بعد أن رفض البكر تنفيذ الرغبة السعودية، المدفوعة، كما هو معروف، من قبل الأميركيين. وبرز عمق هذا التآمر، تالياً، في جعل حفر الباطن وباقي الأراضي السعودية، مقراً وممراً للجيوش وأسراب الطائرات، التي غزت العراق ودمرته بعد حماقة صدام حسين بغزو الكويت.
لكن المملكة التي نجحت في تلبية الأوامر الأميركية بتخريب البلدان العربية، التي أزعجت أنظمتها حكام واشنطن، فشلت في تنفيذ طموحات ملوكها وأمرائها باستتباع تلك الدول لنفوذها. وفشلت في إزاحة أهم عقبة تمنع إنخراط لبنان في مشروعها، لإقامة علاقات وتحالف مع الكيان الصهيوني الذي يغتصب فلسطين؛ وهي المقاومة، التي حاربت العدو "الإسرائيلي" على مدى ثلاثة عقود وسجلت عليه إنتصارات باهرة وغير مسبوقة عربياً، إضافة إلى قيامها بدور قتالي متقدم وحاسم، أسهم في إفشال الهجمة التكفيرية المصنعة أميركياً، الهادفة لتقسيم سورية والعراق واليمن؛ وإخضاع تلك الأقطار بالجملة والمفرق للمشيئة الأميركية و"الإسرائيلية".
ولأن الصراع لحسم الخيارات في المنطقة على أشده، نرى لبنان موضوعاً على حافتي نقيض، فالمملكة تهدد كل من يتنطح لقبول التكليف بتشكيل الحكومة، بمصير يشبه مصير سعد الحريري في التهميش ومصادرة الأملاك وسحب أوراق الإعتماد ومصادرة النفوذ، إذا فشل في تنفيذ خياراتها الموجهة أميركياً و"إسرائيلياً". وهي إعتمدت سمير جعجع وكيلاً لسياستها في لبنان، باعتباره رأس حربة العداء للمقاومة؛ وواجهة الإنفتاح على العدو "الإسرائيلي".
في المقابل، نرى أن شعار إستعادة الصلاحيات، محكوم بمزايدات طائفية وعنصرية تواجهه على أرضه، تتراوح بين اللامركزية الموسعة والدعوة إلى التقسيم والفيدرالية. والأخيرة لا طريق لبلوغها بغير حرب وتهجير وفرز سكاني، يهدد مصير ومستقبل المسيحيين قبل غيرهم من اللبنانيين. ومنطق إستعادة الصلاحيات بحد ذاته، هو منطق غلبة وتمييز. فيما الدعوة إلى التقسيم والفدرلة والتقوقع، إسترجاع لروح وعقيدة الإنعزال، التي خططت وأشعلت حرب العام 1975.
هذا الواقع يجعل طرفي الكباش الدائر، عاجزين عن التراجع للوصول إلى حلول وسط. ويضعهما الجميع أمام حائط مسدود مقفل على التفاهمات الحقيقية، إلا في حال تغلب عقل رجال الدولة على عقول زعماء الطوائف، فاتجه الجميع للتوافق على بناء دولة العدالة والكفاءة ونبذ الطائفية والعنصرية، فيوقفون بذلك هجرة من لا يزال يتمسك بلبنان وطناً ومكاناً صالحاً للعيش.