أقلام الثبات
لقد غيرت الحرب الأهلية الكثير من المفاهيم والتقاليد وحتى الأخلاق، وبعد أن فلتت قوى الحرب، وخصوصاً زعماء الأحزاب والميليشيات يكنزون الثروات بسبب المال المتدفق من الخارج، أو بسبب الخوات ورسوم المرور على المعابر، وأعمال التشبيح والتشليح في نفس الوقت الذي كان يترفق معه أعمال السيطرة ووضع اليد على الأملاك البحرية والنهرية والمشاعات.
وبعد أن علمنا في الحلقة السابقة جزءاً من نهب المال العام كحال صفقات السلاح في عهد أمين الجميل، ومشاريع صديقيه روجيه تمرز وسامي ماروون، وفيما البلد كان مدمراً، أمر الجميل أيضاً بأن يقام في القصر الرئاسي الذي أُصلح وزود بأفخم الأثاث، مركز معلوماتي كبير يضاف إلى مركز الدولة القائم، ثم أمر بإنشاء ملعب رئاسي للتنس. ولم يكتف بالآجر المحلي، فاستورد بتكاليف ضخمة مستوعبات كاملة من مسحوق القرميد بطريق الجو من الولايات المتحدة، وقرر، بالإضافة إلى ذلك، تأهيل قصر ثان فخم وضخم في بلدة بكفيا، كي يقيم فيه طوال أشهر الصيف، علماً أن هذا القصر كان هناك نزاع على ملكيته، وقد صدر بعد بضعة أعوام حكم بإعادته إلى أصحابه الشرعيين.
النهب الرسمي لمالية الدولة، ترافق مع نهب مليشاوي واسع، فكانت السيطرة على المرافئ وإقامة المرافئ الخاصة، وتوسع الأمر إلى حد استقدام براميل نفايات سامة من إيطاليا، جرى دفن بعضها قرب ينابيع المياه في شننعير وفي الجبال وفي الحوض الخامس، وغيرها الكثير التي لا تتسع لها هذه العجالة.
لقد عم البؤس في كل مكان، واتسعت الهجرة وبدأ سعر صرف الليرة بالتدهور، ولم يعد بوسع الناس سوى التفكير بأمنهم وحياتهم.
وسط أجواء اليأس هذه، جاء اتفاق الطائف، كخشبة خلاص من ويلات 15 سنة من الحروب والازمات، وكانت الآمال بإعادة إعمار البلد، ألم تعرف فرنسا بعد العام 1870 كيف تستعيد ذاتها وتتغلب على هزيمتها؟ وألمانيا 1945، المهزومة والمدمرة ألم تنجح نجاحاً باهراً في إعادة إعمار نفسها وفي تحولها إلى الديمقراطية وقلعة اقتصادية كبرى، لكن بعد 32 عاماً من اتفاقات المصيف السعودي، ينسف كل ما قام عليه لبنان من دستور ومواثيق وتتعرض للتحريف والانتهاك، والعدالة تنتقض، والديمقراطية في أفظع هزالها، والإدارة تختزل، وكأنهم ينسفون كل مسوغات استقلال البلد، وأسس نظامه الجمهوري.
منذ أواخر العام 1992 تكون ثالوث الحكم، أو ما عرف بـ"ترويكا" الحكم، فاعتمدت سياسة اقتصادية ومالية ورطت البلد في دين ضخم، وفي أعمال فاقت تكاليفها أضعافاً مضاعفة لتكاليفها الحقيقية، ناهيك عن تقاسم جبنة الإدارة والمؤسسات واستغلال السلطة لمنافع خاصة جداً، إذ اعترف الرئيس الراحل الياس الهرواي بأن الجميع شاركوا "في ما حصل" وتساءل: "من يبني القصور، ويصادر الممتلكات، ويستملك أراضي الآخرين" كما أن الرئيس نبيه بري أكد من جهته أن "ترويكا الحكم شكلت غطاء لتحويل الأموال" (لوريون - لوجور 21/1/1997) ولقد تعددت أشكال تقاسم سلطات المنافع كحال شركتي الهاتف الخلوي، التي كانت تدر أرباحاً سنوية لكل شركة تفوق المليار دولار، استفاد منها آل ميقاتي وآل الحريري، بينما لم يتجاوز مدخول الدولة من الشركتين الـ 300 مليون دولار سنوياً، فتصوروا لو أن مبلغ ملياري دولار سنوياً على مدى عشر سنوات كان من نصيب الدولة، علماً أن رأسمال الشركتين كوِّن من جيوب الناس حيث أن كل من اقتنى خطاً هاتفياً خلوياً دفع مقدماً مبلغ 500 دولار أميركي قبل أن يستلم خطه.
لم تمض خمس سنوات على بدء مسيرة اتفاق الطائف والنهج الاقتصادي الذي بدأ يخط سيره منذ أواخر العام 1992، حتى اتضح حجم الكارثة والمأزق الذي سيصل إليه لبنان، إذ بلغ الدين العام في كانون الثاني 1995، مبلغ 4.987 مليار دولار، وفي كانون الأول 1996 مبلغ 10.348 ملياراً، فتضاعف خلال سنتين والزم الدولة بفوائد تفوق ملياراً ونصف المليار دولار سنوياً، ليبلغ في تموز 14.997 مليار دولار، بعد أن كان الدين العام على البلد حتى نهاية 1992 لا يتجاوز ملياري دولار معظمه بالليرة اللبنانية ودين داخلي.
وكان واضحاً أنه لن يتوقف الوضع المالي عن التدهور ما دامت المصاريف التي تتكبدها الدولة غير مدروسة، وما دام مستمراً تبذير الأموال العامة ونهبها، وما دام النظام لم يعد إلى الحسابات، والشفافية لم تعد إلى الإدارة. ففي حين تنبأ الرئيس الراحل رفيق الحريري، على سبيل المثال، بثقة، أن الأرباح المحققة على الخدمات العامة ستسمح، منذ العام 1996، بتأمين إعادة البناء جزئياً، فقد خُصِّص مبلغ مئتي مليارة ليرة لبنانية في موازنة 1997 لتغطية عجز كهرباء لبنان الناجم عن الفواتير غير المدفوعة، وهو عجز ظل يتزايد مع زيادة الانتاج.
تعددت أشكال نهب المال العام مع بدء مسيرة اتفاق الطائف بأشكال عجيبة فأصبح المال المحرك الرئيسي، كي لا نقول الوحيد، للحياة السياسية، وتطلع الأقوياء إلى الحصول على حصتهم منه، وتُظهر التجربة في كل مكان وحتى في أكثر البلدان تطوراً أن التلزيمات الرسمية تخضع لضغوط من كل نوع، أو تشكل مصدراً للفضائح الصارخة وتشكل منذ إعلانها حتى إنجازها، المجال المفضل للفساد، في ظل غياب الشفافية الذي صار قاعدة مطلقة في ممارسة السلطة وعقد الصفقات الرسمية، وكم من مشاريع ذات تبعة مالية ضخمة حُملت إلى مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال، وأحياناً من دون معرفة الوزير المختص، فلا تنظم أي مداولة، ولا تطلب أي استشارة، ولا تعلن أي معلومات، وتتخذ جميع القرارات المتعلقة بالأعمال الكبيرة في دوائر خاصة ضيقة جداً أحاط بها رئيس الحكومة نفسه.
لعلنا نتعظ من تجربة "الام الحنون" فقد صرح قاض فرنسي مرة كان يحقق في ملف فواتير مزورة، وتمويل غير مشروع للأحزاب السياسية قال: إن الفساد "دودة في ثمرة الديمقراطية". أما في لبنان فليس فيه حياة سياسية ديمقراطية حقيقية، فكيف يمكن أن نصف فساداً صار جزءاً من تركيبة نهج وحكم.
وللبحث صلة في حلقة أخرى... .