ألمانيا... الصدمة المزدوجة ــ د. ليلى نقولا

الإثنين 15 كانون الأول , 2025 09:29 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

منذ إعلان المستشار الألماني أولاف شولتز عن "نقطة التحول التاريخية" (Zeitenwende) في شباط / فبراير 2022، تجد ألمانيا الاتحادية نفسها في خضم عاصفة جيوسياسية هوجاء لم تشهد لها مثيلاً منذ إعادة توحيد شطريها في بداية التسعينات من القرن الماضي. لم يعد الأمر مقتصراً على تحديات في السياسة الخارجية، بل تواجه ألمانيا "صدمة مزدوجة" تضرب ركائز عقيدتها الاستراتيجية التي استقرت عليها لعقود: الاعتماد على الطاقة الروسية الرخيصة كمحرك للنمو، والاتكاء على المظلة الأمنية الأميركية كضمانة للبقاء.

الصدمة الأولى: انهيار "التغيير عبر التجارة"

تمثلت الصدمة الأولى في الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي لم يُسقط السلام في أوروبا فحسب، بل دمر العقيدة الألمانية المعروفة باسم "التغيير عبر التجارة". لسنوات طويلة، اعتمد الألمان على ما يسمى "السياسة الشرقية"  Ostpolitik، حيث راهنوا على أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع روسيا سيشكّل كابحاً تلقائياً للصراع ويؤمن استقرار القارة الأوروبية. هذا التحوّل أجبر ألمانيا على الخروج من حالة الضعف العسكري، حيث اضطرت للإعلان عن صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث جيشها في محاولة لردم الفجوة الهائلة بين قدراتها الاقتصادية وقدراتها الدفاعية المتآكلة.

الصدمة الثانية: استراتيجية الأمن القومي الأميركي 2025

بينما كانت ألمانيا تحاول استيعاب الصدمة الشرقية، برزت الصدمة الثانية من الغرب وبالتحديد من الولايات المتحدة الأميركية.

إن استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي نشرتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في كانون الأول 2025، وتضمينها مفاهيم تتحدى السيادة الأوروبية وتطالب الحلفاء بدفع تكاليف الأمن، وتتحدث علناً عن دعم اليمين الأوروبي.. كلها تضع ألمانيا أمام مأزق "فقدان الضامن". تشعر ألمانيا الآن أنها مُطالبة بتحمل تكاليف الأمن الأوروبي التي تكفلت بها واشنطن منذ عام 1945.

ولعل أخطر ما في هذه الاستراتيجية بالنسبة لألمانيا هو التخلي الأميركي عن الحلفاء في موضوع أوكرانيا، حيث نصت الوثيقة بوضوح عن سعي الأميركيين لـ"إعادة تأسيس الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا"، وهو ما يمكن تفسيره على أنه ضوء أخضر أميركي للتطبيع مع موسكو فوق رؤوس الأوروبيين، مما يترك ألمانيا وحيدة في مواجهة المعضلة الأمنية وتكاليف الدفاع الباهظة.

 

النتيجة، تفرض هذه الديناميكيات على صانع القرار الألماني إعادة تقييم جذرية للمصالح الوطنية، تتجاوز المثالية الليبرالية نحو نوع جديد من "الواقعية السياسية":

* الأمن أولاً: التحوّل من أولوية الرفاه الاقتصادي إلى أولوية الأمن القومي، حتى لو كان ذلك على حساب النمو.

* الاستقلالية الاستراتيجية: السعي لبناء منظومة دفاعية أوروبية تكون فيها ألمانيا "العمود الفقري" اللوجستي والتقليدي، لتعويض أي تراجع أميركي محتمل، دون فكّ الارتباط الكامل مع الناتو.

* تنويع الشراكات: تقليل الاعتماد على شريك واحد لتجنب الابتزاز السياسي، وهو ما يتطلب إعادة هندسة النموذج الاقتصادي الألماني بالكامل. هذا الانتقال من "مستهلك للأمن" إلى "منتج للأمن" يتطلب تضحيات اقتصادية وسياسية هائلة لا يبدو المجتمع الألماني أو بنيته الاقتصادية جاهزين لها بالكامل.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل