أقلام الثبات
مرة أخرى هناك من يضع مسيحيي لبنان في "بوز المدفع"، لا ليدافعوا عن أنفسهم ولا عن لبنان، بل خضوعاً لأمر أميركي وتنفيذاً لمصالح "إسرائيلية" تقضي بضم لبنان، ولو بالقوة، إلى طابور الأنظمة العربية المتهودة، المعروفة منذ نشأتها بأنها لا تعيش من دون الحماية الأميركية والغربية؛ ولا تقدم على عمل يتعارض فعلياً مع مصالح وحسابات الغزوة الصهيونية، التي تأخذ فلسطين المغتصبة نقطة انطلاق، لتحقيق هدف دول الغرب الاستعمارية في السيطرة على المنطقة، من خلال إقامة ما تسميه "إسرائيل العظمى" و"إسرائيل الكبرى".
ونشهد هذه الأيام ما يشبه عودة عهد الرئيس الأسبق أمين الجميّل إلى الحكم؛ كان التقدير بداية أن الأمر يقتصر على تشابه المناخ والظروف، لكن بينت التطورات المتلاحقة أن ما يجري يتعدى ما أراد الجميّل تحقيقه في اتفاق 17 أيار، لأن ما نشهده أسوأ وأدهى مما شهدناه خلال حكم "الشيخ أمين"، مما استدعى في ذلك الوقت انتفاضات كُللت بانتفاضة السادس من شباط 1984، التي لم تنته إلا بإسقاط الاتفاق الخياني المذكور، وغيره من مشاريع الاستسلام والتطبيع التي سار بها حكم الجميّل في ذلك الوقت.
كما نشهد في الوقت نفسه ارتفاع أصوات المدفوعين للمطالبة بما يسمى "السلام" مع "إسرائيل"، تحت حجج واهية ودونية، في إحساسها الوطني؛ وفي حساسيتها السيادية، حيث تستقوي تلك الأصوات المتصهينة، بالترسانة العسكرية الأميركية، الموضوعة بتصرف المجرمين الصهاينة؛ وتستغل انكشاف ظهر المعادين للمشروع الصهيوني-الغربي، بما تتعرض له سورية، من أخطار التقسيم والتفتيت، بعدما تقاسمتها الاحتلالات الأميركية و"الإسرائيلية" والتركية والداعشية. مما شكل فرصة لقوى محلية، تسعى منذ إنشاء الكيان الدخيل على أرض فلسطين، إلى فرض تحالفها القديم معه، في مسارها لصهينة لبنان وجعله صنواً لذلك الكيان. لذلك، فإن ما نشهده يتخطى التطبيع السياسي والأمني، الذي عمل عليه حكم الرئيس الجميّل، باتفاق 17 ايار، إلى التطبيع والاستسلام الديني، من خلال الترويج الحالي للاتفاقيات "الإبراهيمية". وللتذكير، فإن القاضي نواف سلام كان أحد أعضاء الوفد اللبناني المفاوض الذي توصل لاتفاق 17 ايار، فهل يكون الرئيس نواف أداة محاولة الخضوع للبدعة الإبراهيمية؟
واللافت، أن الإصرار على هذا المشروع؛ والسعي لتحقيقه في هذه الظروف، جعلت من رأس الكنيسة الكاثوليكية (بابا روما)، يأتي إلى لبنان في زيارة يدعو فيها إلى "السلام" وترك السلاح والانخراط في "علاقات أخوة" مع الجزارين المجرمين والمحتلين، تحت سقف "الاتفاقات الإبراهيمية"، التي زكاها خطاب رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي تحدث عن "السلام" ورفض السلاح وعن "أخوة أبناء إبراهيم"، من دون أن يضع في حسابه، أن معظم المستوطنين اليهود الصهاينة في فلسطين، ليسوا ساميين ولا شرقيين؛ ولا علاقة لهم بنبي الله إبراهيم، بل أن معظمهم غربيون أوروبيون، من يهود الدونمة. كما تجاهل عون في احتفائه بزيارة السلام البابوية، أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا "إبراهيميين"، فقرآنهم يقول لهم في سورة آل عمران {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً بل كان حنيفاً مسلماً}، و{إن الدين عند الله الإسلام}؛ ولا يمكن للمسلم أن يكون "إبراهيمياً"، كما أن جميع مسيحيي العالم، ما عدا المسيحيين العرب، لا علاقة لهم بإبراهيم الخليل، علماً أن هذا الترويج "للسلام" مع الغزاة المحتلين، يترافق مع إمعان "إسرائيل" قتلاً وتدميراً في لبنان وغيره.
كذلك، لا يمكن تجاهل اقتصار زيارة البابا على مناطق جبل لبنان، الواقعة ضمن حدود ما كان يعرف بالمتصرفية. فهو لم يزر البقاع ولا الجنوب ولا الشمال. ولولا ضيق المساحة، لما زار مرفأ العاصمة بيروت لإقامة قداس جمع عشرات آلاف المصلين. وهو لم يتحدث عن حق لبنان في مقاومة الاحتلال؛ ولم يدين جرائم "إسرائيل"، بل كانت زبدة كلامه "الاستسلام" والاتفاقيات الإبراهيمية"، أي حرفية ما تريده أميركا و"إسرائيل".
وليس من قبيل الاستهداف القول إن عهد جوزاف عون، يكرر كثيراً من ممارسات عهد الجمّيل، فالحسابات الخارجية ذاتها، هي التي نصبت الرجلين في موقع الرئاسة. والحسابات ذاتها، جاءت سابقاً بشفيق الوزان رئيساً للحكومة؛ وجاءت حالياً بنواف سلام.
ومثلما شهد عهد الجميّل تفلتاً لميليشيات اليمين المسيحي، التي عاثت خطفاً وقتلاً لكل من اشتبهت بأنه معاد للخيار "الإسرائيلي" للعهد الكتائبي، ها هي اصوات ذات القوى، تحرّض يومياً على الفتنة وعلى استمرار العدوان "الإسرائيلي"؛ وتدعو لتصعيده ضد شريحة كبيرة من اللبنانيين، ممن يدافعون عن أنفسهم وعن لبنان، أمام عجز الدولة اللبنانية ومؤسساتها المعنية، عن الدفاع عن لبنان وشعبه، خصوصاً عن الجنوب، الذي تخلفت العهود اللبنانية المتلاحقة، عن القيام بواجبها في حمايته، من الاعتداءات "الإسرائيلية"، منذ عشرات السنين وقبل ظهور حزب الله. والمساعي حالياً لجعل جيشنا الوطني حارساً لحدود كيان العدو، الذي لم يرسم لكيانه حدوداً بعد.
كل ذلك يسجل قسراً على مسيحيي لبنان، لجعلهم حطباً وضحايا لمشروع غريب عنهم، فيما ادوات تسخيرهم لهذا المشروع، ما كان لها أن تتحدث باسمهم، لولا كونها ميليشيات حزبية مسلحة، فهل هناك من يتمسك بالوجود المسيحي اللبناني والمشرقي، حقاً وليس زوراً، فينقذه ممن يدعون الزعامة والنطق باسمه؟
ألمانيا... الصدمة المزدوجة ــ د. ليلى نقولا
عملية أستراليا... بين "تبييض" الصورة "الإسرائيلية" والتحضير لاعتداء مقبل ــ د. نسيب حطيط
أميركا الشر المستطير !