أقلام الثبات
يحتار المرء وهو يتابع مناكفات الساسة اللبنانيين، بين تصديق ما يسمعه منهم وبين ما يراه من أفعالهم. ليس على نمط "أسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أستعجب"، لأن أقوالهم وأفعالهم معاً هي محط إستنكار ولا مجال لأي إعجاب بها. لكن الحيرة هي في التأكد من أن ما يفعلونه هو تمثيل وخداع، أو خلافات حقيقية تستعر بينهم بحجة أن كلا منهم يدافع عن "قطيعه" الطائفي، أو السياسي. ولولا أن الأمر بلغ من اللبنانيين قمة الوجع وأن المشهد لا يحتمل الكوميديا، لقلنا أن "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ومطوعيها يحكمون لبنان، بعد أن أطاحت بهم محاولات محمد بن سلمان إعطاء مملكته السعودية وجهاً حداثوياً، يرضي الغرب الأميركي والأوروبي ويبعد عنها وصمة السلفية الوهابية المتخلفة.
ولو تمعنا في طرائق الحكم والتحكم التي يمارسها زعماء البلاد وقادة العباد في لبنان، لعرفنا بسرعة أنهم يتقنون فن "تطويع الرأي العام" بحرفية عالية، من خلال آليات تطويع الناس بالترغيب النفعي القائم على الزبائنية؛ وبالترهيب المذهبي والعصبوي القائم على التخويف من الآخر اللبناني؛ وبالإبتزاز والتسلط الذي يمارسه تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، الذي يتحكم بلبنان وشعبه برعاية وحماية أميركية وغربية.
ولو راجعنا، في نظرة خاطفة، ما تشهده الإنتخابات اللبنانية، على سبيل المثال، من دفع أموال وألاعيب تسبق وصول المقترعين إلى الصناديق، مرفقة بضخ إعلامي موجه ومفتعل، لكشفنا جزءاً هاماً من سياسة جرً القطيع إلى المعلف الملائم، بما يضمن لكل فريق السيطرة على إقطاعته من المؤيدين والأتباع. وبما يحدد نتائج الإنتخابات قبل إجرائها.
وفي هذه الأيام، يلعب السياسيون اللبنانيون في مشهدية تشكيل حكومة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة. وكلما فككوا عقدة تعيق مسيرة هذا التشكيل، برزت عقد أقوى. فيما هم يخفون حقيقة أنهم مجرد "مطوعين" يعملون لدى ولي أمرهم الأميركي. وأن أهم العقد التي تمنع تشكيل الحكومة، أي حكومة، هي تلك الشروط التي وضعها الأميركي أمام من يريد أن يحكم في لبنان. وقد جاء تصرف المقاومة باستجلاب النفط الإيراني لحل أزمة المحروقات الخانقة التي يعاني منها اللبنانيون؛ ليفضح واقع التدخل الأميركي في كل شاردة وواردة من شؤون لبنان، إذ أن السفيرة الأميركية، ثم وصول وفد السيناتورات الأميركيين إلى لبنان، كشف تدخلهم وفرضهم مشيئتهم على حكام لبنان. وكانت وقاحتهم بادية في التهجم على فريق لبناني أساسي هو حزب الله؛ وإبلاغهم من يعنيهم الأمر برفض دخول باخرة النفط الإيرانية إلى لبنان، تحت طائلة العقوبات الأميركية، لتفضح كامل اللعبة وأدواتها. فما نشاهده من خلافات على الحكومة، ليس إلاّ مواقف مسرحية تتحرك أمام أعيننا، أما الجزء الأساسي مما يجري، فيتأثر بشكل وبآخر بالضغوط الأميركية على لبنان أمنياً وسياسياً ومالياً، لفرض شروط الإدارة الأميركية التي لا ترى في منطقتنا سوى مصالح الكيان الصهيوني العدوانية. فالمطلوب إنضمام لبنان إلى طابور المنبطحين أمام العدو "الإسرائيلي" (المطبعين)؛ والتفريط بالأرض والمياه والثروة النفطية اللبنانية لصالح العدو "الإسرائيلي". والقبول بتوطين الفلسطينيين ودمج المعارضين السوريين في مناطق سكنهم اللبنانية.
هي لمحات من إستغفال المسؤولين والسياسيين اللبنانيين لشعبهم؛ وهروبهم من كشف حقائق ما يجري في البلاد. وهل هناك أسوأ من تعامل حكام لبنان مع شعبهم من خضوعهم للأوامر الأميركية بعدم المس بحاكم المال، رياض سلامة، رغم كل جرائمه المالية والإدعاء عليه في أكثر من بلد أوروبي بتهمة تهريب أموال والإثراء غير المشروع. فيما لا يجروء أصحاب القرار في لبنان على محاسبته، بل يتركونه يمارس سادية مالية بحق اللبنانيين، ينفذ فيها أمراً أميركياً بتجويع اللبنانيين لإخضاعهم للمطالب الأميركية و"الإسرائيلية"، بتواطؤ مزمن من قبل الفاسدين من الزعماء والوزراء وكبار الموظفين وأصحاب المصارف، الذين مهدوا الأرض بسرقتهم لأموال الخزينة العامة وأموال المودعين في المصارف، لكي تحقق العقوبات الأميركية أهدافها.
وهذا الإرتباك الذي يسود حركة السياسيين اللبنانيين، يكشف بالمقابل، فشلهم ومحدودية قدرتهم في التعامل مع تحديات المرحلة؛ وانسداد الأفق أمامهم، في محاولتهم الخروج من الأزمة، فهم يتذاكون على اللبنانيين، لكنهم صم بكم أمام الأميركي. وسبق أن نقل عن مساعد وزير الخارجية الأميركية، السفير الأسبق في لبنان، ديفيد ساترفيلد، بأن الأميركيين يضغطون على لبنان للتشارك مع كيان العدو في مشروع طرحته اليونان، لإقامة أنبوب لتصدير الغاز إلى أوروبا يمر بشواطئها بالاشتراك مع قبرص و"إسرائيل". في موازاة تشكيل "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي يضم مصر، "إسرائيل"، قبرص، اليونان، إيطاليا، الأردن وفلسطين. ويرفض لبنان الإنضمام إليه بفعل وجود كيان العدو فيه.
كذلك يضغط المسؤولون ألأميركيون لقبول لبنان ب"خط هوف" (نسبة إلى الوسيط الأميركي فريدريك هوف)، الذي يعترف بحق لبنان بإستثمار زهاء 60 في المائة من المنطقة المتنازع عليها، على أن تبقى المساحة المتبقية معلقة تمتنع "إسرائيل" عن التنقيب فيها، في انتظار التفاوض بين الدولتين على الحدود البحرية. إلا أن الجانب اللبناني أبلغ المسؤولين الأميركيين عدم قبوله بهذه الصيغة لأنها تعني تنازله عن 360 كيلومتراً مربعاً من مساحته البحرية.
ولأن المسؤولين اللبنانيين لا يجرؤون على كشف حقيقة التعطيل والحصار الذي تمارسه الولايات المتحدة على لبنان، يلتهون باختلاق عقد يدعون أنها تعطل تشكيل الحكومة. في حين أن محطات كثيرة كشفت أن كل خلافات السياسيين والقوى والأحزاب، لم تمنع تحالفهم معاً ضد أي تغيير يطالهم ويهدد مصالحهم. والإنتخابات القطاعية والنقابية والطلابية تؤكد أنهم يختلفون فقط على المحاصصة ويتفقون على حساب مصالح اللبنانيين، لأن وظيفتهم تطويع إرادة اللبنانيين أمام الأوامر الأميركية والمطامع الصهيونية.