مقالات مختارة
لا تخلو سيرة الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، من صفحات مشابهة للزعيم العربي جمال عبدالناصر، في ما يخص الموقف من الحركة الشيوعية؛ ففي الوقت الذي كان عبدالناصر يدشّن السدّ العالي ويبني جيشاً حديثاً ومجمعات صناعية ضخمة بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي، كان الشيوعيون يُحاكمون، ويُطلَب منهم حلّ حزبهم والالتحاق بالاتحاد الاشتراكي العربي.
في مقاربة مشابهة، وفي ذروة التوتر الإيراني مع الإمبريالية الأميركية وتوسيع التعاون مع موسكو، كان أعضاء حزب "توده" (الحزب الشيوعي الإيراني) يُعتقلون ويُحاكمون، وكان رئيسي ضمن فريق النيابة العامة. لم يكن حزباً منافقاً، كما كان "مجاهدو خلق"، كما لم يكن حزباً عميلاً للإمبريالية الأميركية، بل كان، إلى جانب الأئمة الوطنيين وحركة محمد مصدق، جزءاً من الحركة الشعبية الإيرانية ضد الشاه وحكمه العميل الفاسد.
إلى ذلك، إنَّ المشهد الإيراني والشرق أوسطي بعد انتخاب رئيسي لن يكون كما قبله، وعلى جميع القوى الإقليمية والدولية أن تراجع حساباتها وتقف على "رجل ونصف"، على حدّ تعبير قائد المقاومة السيد حسن نصرالله:
1- على مدار عقدين وأكثر، كانت الحصة الأكبر من الرئاسة الإيرانية من نصيب المعتدلين أو الإصلاحيين، ولم تكن الرئاسة أمراً هامشياً أو ثانوياً، كما كانت تشيع الدوائر الإمبريالية والرجعية.
والحق أنَّ إيران قدمت نموذجاً ديمقراطياً خاصاً يشبه ديمقراطيات غربية عديدة (مراكز قوى متنافسة حقاً، لا في إطار مبرمج)، لأنها تعكس حراكاً اجتماعياً اقتصادياً حقيقياً لم ترسم دوائره وهُويته في أقلام الاستخبارات، كما بلدان "سايكس بيكو".
مع ذلك، إنَّ عواصم عربيَّة نافذة، بدلاً من الانتباه إلى هذه المعادلة الإيرانية والبحث عن قواسم مشتركة مع المعتدلين في طهران من أجل خليج متعاون، يوظف طاقات المنطقة من أجل توسيع مساحات السّيادة والمناورة، وإيجاد مكان أوسع تحت الشمس، انخرطت في حسبة المتروبولات الإمبريالية ومصالحها، وراحت تتغذى سياسياً على تقارير معادية لأيّ نهوض مستقل وسيد في المنطقة، مثل تقرير معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى وتقرير معهد "هرتزليا" الصهيوني، وهي التقارير التي تتخذ من إيران هدفاً مباشراً لها، وتعتبرها العدو الأساسي للمصالح الإمبريالية والصهيونية.
على الأرجح، إنَّ فواتير التفاهم أو الاشتباك مع رئيسي ستكون أعلى وأصعب بكثير مما كانت مع الإصلاحيين، وخصوصاً مع استنزاف المشهد العربي لنفسه مالياً وسياسياً في عقود الفوضى السابقة، ومع مناخات الحوار الأميركي- الإيراني في فيينا، أياً كانت نتائجه.
2- بحسب قراءات جورج فريدمان، تلميذ بريجنسكي وأحد مستشاري بايدن، على واشنطن تبريد المشهد في الشرق الأوسط والتفرّغ لمواجهة الصين وروسيا، وهو ما يتطلَّب التفاهم مع إيران، بل إنَّ طهران التي تدرك ذلك راحت تدير المفاوضات على الطريقة الفيتنامية (الحوار على مهل، ومن دون الخضوع لأية شروط، مع المطالبة برفع العقوبات جبناً إلى جنب مع وقف التخصيب).
وأياً كانت المدّة والصعوبات التي ستستغرقها مفاوضات فيينا، فإنَّ إيران هي المستفيد الأول في الحالتين؛ حالة التفاهم وحالة التصعيد. إنَّ حالة التفاهم ستمنحها مساحات مالية وسياسية واسعة بعد كسر الحصار والتقدم على رقعة اللاعبين الكبار ومجالاتهم الحيوية، وجميعها أوراق قوة لا لبس فيها، فكيف إذا وضعت بيد رئيس متشدّد مثل رئيسي!
أمّا حالة التصعيد، فستطلق يد إيران في الوصول إلى التخصيب الكامل، وستعزز مساحات التنسيق مع دول مثل روسيا والصين، بل ثمة تقارير تتحدَّث عن تشجيع صينيّ، وربما روسي، على "التعنّت" الإيراني، مقابل توفير بدائل روسية وصينية اقتصادية وسياسية وعسكرية واسعة.
3- إضافةً إلى كلِّ ما سبق، إن أعداء إيران ومنافسيها في الإقليم، ليسوا في أفضل حال، ما يدفعها، بقيادة رئيس متشدد، إلى واجهة الإقليم والأحداث أكثر فأكثر.
من جهة، إنَّ العدو الصهيوني فقد زمام المبادرة أمام تطور القوة الصاروخية لمعسكر المقاومة، كما فقد جزءاً من أهميته الاستراتيجية في الحسابات الإمبريالية التي وجدت نفسها مضطرة إلى التدخل المباشر في أكثر من محطة.
ومن جهة تركيا، إنّ سياسة اللعب على الحبلين بين موسكو والأطلسي لم تعد تعجب البرجوازية التركية الكبيرة وأقساماً واسعة من الطبقة الوسطى. وقد تطيح زعامة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الانتخابات المقبلة، فضلاً عن المغامرات العسكرية المكلفة وغير المأمونة في سوريا والعراق وليبيا، والأوهام المريضة للانبعاث العثماني، وكذلك ظهور منافسين كبار في الدائرة الاقتصادية للصناعات التركية التقليدية.
4- بناءً على ما سبق، إنَّ المنطقة، وعلى خلاف الشائع، مقبلة على مزيد من التصدع والفوضى، بسبب الأزمة الموضوعية لدولة التبعية القطرية من جهة، والدور المتزايد للقوى الحاخامية في الكيان الصهيوني من جهة ثانية، كما بسبب تصاعد الصراعات الإقليمية على المياه وغيرها، مثل الاعتداءات الإثيوبية والتركية على حصة العرب من الأحواض المائية المشتركة.
5- لا يحتاج أيّ محلّل إلى الكثير من العناء والتمعّن ليربط بين هذا المشهد ومعنى صعود إيران بزعامة رئيسي في هذه اللحظة التاريخية بالذات.
موفق محادين ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً