فتن وحوارات واتفاقات وقائمقاميتين وقناصل
أقلام الثبات
ثمة أسئلة كثيرة يطرحها اللبنانيون، كلما سمعوا عن حوار مزمع، أو التحضير لحوار، ومن هذه الأسئلة:
ماذا يمكن أن ينتج، وماذا ينتظرنا بعده وهل نحن أمام هدوء واستقرار أم أمام مرحلة جديدة من مخاض صعب لا يعرف متى ينتهي؟
واللبنانييون كما كانت حواراتهم تنتج أحياناً أزمات أو مدخلاً لأزمات كبرى، وحروب، كانت أيضاً مدخلاً لحلول، وفي كل الحالات، فإن التشديد والعمل من أجل الحوار له معنى واحد أن هناك أزمة ولابد من حل لها.
نعود إلى الوراء إلى أيام كان لبنان أصغر من الصغير، وتحديداً إلى القرن السابع عشر، حنيما انقطع نسل الأسرة المعنية عام 1697، بوفاة الأمير أحمد بن ملحم ابن اخ الأمير فخر الدين، يومها تنادى من كان يطلق عليهم أعيان البلاد ووجهاؤها وأكابرها إلى مؤتمر للحوار في السمقانية الواقعة بين بعقلين والمختارة، وكان همهم أي أسرة يختارون منها حاكمهم.
وبعد نقاش وحوار وجدال طلع المتحاورون بالحل، باختيار بشير الشهابي الأول من راشيا ليكون حاكماً عليهم.
والامير بشير هذا، هو ابن أمير راشيا حسين شهاب، وابن اخت الامير أحمد آخر الأمراء المعنيين.
إذاً، وجد الحل باجتهاد يقضي باستمرار مبدأ الحكم بالوراثة، وطالما أن الأسرة المعنية زالت، فكان ابن المرأة المعنية هو الأحق.
وفعلاً توجه المؤتمرون إلى راشيا وأبلغوا الأمير بشير الشهابي الأول ما اتفقوا عليه، وعاهدوه على أن يخضعوا جميعهم خواصهم وعوامهم لأمره، كما عاهدوه أن يدفعوا المال المتوجب والمكسور على الأمير أحمد المعني للدولة العلية. وأرسل قرار لقاء السمقانية إلى استنبول بواسطة والي صيدا، مع التأكيد بأن الأموال سترسل حالاً مع المتأخر، لكن هذا القرار رفضه الباب العالي بتأثير من الأمير حسين ابن فخر الدين الذي أصر على حيدر الشهابي من حاصبيا، وهو أيضا ابن ابنة الأمير أحمد المعني آخر الحكام المعنيين، وهكذا أسند الباب العالي الإمارة إلى حيدر الشهابي عملاً بالمبدأ الحقوقي الوراثي القائل بأن ابن الإبنة هو أحق بالوراثة من ابن الشقيقة.
ولما كان حيدر الشهابي ابن اثني عشر عاماً، أعلن الباب العالي أن بشيراً يتولى الحكم نيابة عن حيدر حتى يبلغ سن الرشد، وقد احتفظ الأمير بشير بولايته حتى وفاته عام 1707، مسموماً على يد من كانوا يتولون أمر وصيّه.
في العام 1840، وبعد جلاء القوات المصرية بقيادة ابراهيم باشا في شهر تشرين الأول، واستسلام الأمير بشير الشهابي الثاني ونفيه إلى مالطا، عين الامير بشير قاسم الشهابي الثالث الملقب بـ "أبي طحين" بدلاً منه، كما عزلت السلطنة العثمانية زكريا باشا من منصب الولاية، وعينت خلفاً له السر عسكر (قائد) محمد سليم باشا وأمرته بنقل تخت الوزارة من عكا إلى بيروت، فأمر السر عسكر بإقامة ديوان لفصل الدعاوى لدى الأمير، فأحضر له بعض رجال النصارى والدروز، وألف ديواناً تحت رئاسة الشيخ بشارة الخوري صالح - الفقيه - (جد أول رئيس جمهورية استقلالي في لبنان بشارة الخوري)، فلم يرق ذلك الديوان للدروز، فاتفقوا مع بعض المناصب (زعماء المقاطعات) على عزل الأمير من منصب الولاية.
وما كاد الانقسام والخلاف يتطور ويتسع، حتى أمر السر عسكر باجتماع لمناقشة المسألة أي للحوار، عقد في حرج بيروت، وأسفر هذا اللقاء عن اتفاق بين الدروز والنصارى مكون من سبعة بنود، وأصدر السر عسكر في 5 أيلول 1841 أمراً بشأن إنشاء مجلس القضاء جاء فيه: "نعلمكم أن جلالة سلطاننا الأعظم عبد المجيد قد نظر بعين الاهتمام إلى كل ما يضمن رفاهية رعاياه، فقرر بداءة بدء، حباً بخير شعبه، أن يقيم مجالس في كل سلطنته، للقطع في الخلافات والمنازعات، وفقاً للشرائع لكي يتمتع اهلوه بذات النعم التي يتمتع بها سائر سكان انحاء السلطنة". لم يتسن لهذا التدبير أن يرى النور فالأمير أبو طحين، ما كان يتسلم الحكم حتى أعماه البطر، فكثر عدد الناقمين عليه، ووقعت فتن وحوادث أطلق عليها حركة الحجل، فاتخذت الدولة العثمانية ذلك سبباً لعزل الأمير أبو طحين في أول تشرين الثاني عام 1841، وإرساله منفياً إلى استنبول.
إذاً لقد انتهى الحكم الشهابي، وتحديداً في 4 كانون الأول 1841، فعين عمر باشا النمساوي في 15 كانون الثاني عام 1842، لكن النمساوي تميز عهده بالمشاكل والفتن والفساد والرشاوى فعزل بعد 11 شهراً وتحديداً في 7 كانون الأول 1842، ومن أجل وضع حد للفوضى التي تسبب بها النمساوي أوفدت الحكومة العثمانية وزير خارجيتها شكيب أفندي إلى لبنان ليوطد الأمن ويعيد تنظيم الحكم بعد التشاور مع الدول الكبرى آنئذ، وفي 29 تشرين الأول عام 1845 أعلن باسم حكومة الباب العالي تنظيماً جديداً للحكم اشتهر باسم نظام شكيب أفندي، ونص هذا النظام على تقسيم لبنان إلى قائمقاميتين أحداهما درزية في الجنوب وأخرى مسيحية في الشمال يفصل بينهم طريق بيروت-دمشق وعلى رأس كل قائمقامية، قائم مقام من أبنائها تعينه الحكومة العلية، فيتولى الإدارة ويكون مسؤولاً أمام والي صيدا العثماني.
في تلك الفترة بالذات كان تدخل ما يسمى الدول الكبرى بدأ يذر بقرنه وصار لكل دولة تقريباً، وخصوصاً الأوربية قنصلها، وبدأ الوجهاء والطامحون يتدافعون نحو القناصل، بعضهم يريد توسيع قائمقاميته، وبعضهم يريد بعض المراكز وبشكل عام كل يقدم خدماته والولاءات من أجل مركز أو مكانة مميزة. فلم يحل نظام القائمقاميتين دون استمرار النزاعات والمشاكل التي انتهت عام 1860 بحرب أهلية واسعة، فكان ذلك إيذاناً بدخول "لبنان الصغير" مرحلة جديدة هي نظام المتصرفية، وخصوصاً أن الحكومة العثمانية حينما قررت وضع اتفاق القائمقاميتين حيز التنفيذ عام 1841، قامت الخلافات بين الزعماء اللبنانيين حول اختيار القائمقامين وتحديد صلاحيات كل منها، وفي رسم الحدود بين الدويلتين، وتدخل القناصل في هذه الخلافات يناصر كل منهم الفريق المنضوي تحت لواء دويلته.
يتبع ...
(حلقة جديدة كل ثلاثاء وخميس)