مقالات مختارة
في خطابه السّنوي أمام الجمعيّة الاتحاديّة الروسيّة، وضع الرئيس فلاديمير بوتين النقاط على الحروف، محدّداً عدّة عناوين رئيسيّة صالحة لأن تكون بنوداً أساسيّة في استراتيجيّة روسيا للمرحلة المقبلة. وعلى الرّغم من أنَّ التاريخ الروسي مشبع بالمحطّات الحسّاسة، من حروب وأزمات كبرى، يمكن القول إنّ مرحلة اليوم تعد أكثرها دقّة، وقد تشكّل مفترقاً في تاريخ البلاد الحديث.
بدايةً، كان من الطّبيعيّ أن يأخذ موضوع كورونا في روسيا الحيّز الأكبر من الخطاب، لناحية الخسائر الناتجة منه، أو المسار العلميّ الناجح الذي أدى إلى تصنيع لقاح أو لقاحات أثبتت فعاليتها، أو الخطط الاقتصادية والإدارية الخاصّة بمتابعة وتطوير استراتيجية مواجهة تداعيات الوباء من كلّ النواحي، إذ إن هذا الموضوع يشغل كلّ دول العالم حالياً، ولكن قد يكون للإشارات المختصرة التي أرسلها الرئيس بوتين في نهاية خطابه، والتي تتعلّق بالعلاقات الدولية والاشتباك الحالي بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، البعد الأكثر حساسيةً وأهميّةً على صعيد العالم حالياً.
كان واضحاً من خطاب الرئيس بوتين أنّه يعطي أهمية كبرى لما يجري على الحدود الغربية والجنوبية الغربية لروسيا بين البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، مروراً بإقليم دونباس شرق أوكرانيا وبيلاروسيا، وصولاً إلى بحر البلطيق شمالاً، إذ تشكّل هذه المنطقة حالياً خطّ الدفاع الاستباقي الأخير بين دول "الناتو" والبر الروسي، بعد أن كان هذا الخطّ خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي متقدّماً غرباً إلى عمق أوروبا الشرقية، بين بولونيا وألمانيا الشرقية وهنغاريا ورومانيا، ويمكن فهم موقع أوّل مجموعة من الخطوط الحمر التي لمح إليها بوتين في خطابه وشدَّد على أنّ روسيا هي الّتي تحدّدها بنفسها.
الخطّ الأحمر الأوّل ضمن هذه المجموعة يمكن تحديده بالوضع الداخلي في بيلاروسيا، فقد تكلّم بوتين كثيراً عن التورط الغربي (الأميركي) المباشر في محاولة خلع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو. وبمساعدة موسكو، تم إحباط محاولة انقلاب واغتيال تستهدفه وعائلته خطّطت لها الولايات المتحدة. تكمن أهمية هذا الخط بالنسبة إلى موسكو في عدم إمكانية التهاون في هذا الموضوع وترك السلطة في بلاروسيا تسقط في أيدي المرتهنين للأميركيين، تماماً كما حصل في أوكرانيا في العام 2014، لأن في ذلك، لو حصل، خسارة استراتيجية لروسيا قد تضاهي تأثيراتها وتداعياتها عليها ما نتج من خسارة السلطة الصديقة لها في أوكرانيا.
الوضع في أوكرانيا هو الخط الأحمر الثاني الذي تكلّم عنه الرئيس بوتين، فالأمر يتعلّق أولاً بوجوب اقتناع الغرب ("الناتو" والأميركيين) بأنَّ شبه جزيرة القرم عاد نهائياً إلى سلطة موسكو، تماماً كما يقول التاريخ، وكما تُظهر الجغرافيا، وكما يفترض الأمن القومي الروسي، والأمر في أوكرانيا يتعلق ثانياً - بحسب الرئيس بوتين - بأن الاستفزازات الأوكرانية في إقليم دونباس، المدفوعة والموجهة من "الناتو"، ستواجه بحزم غير متوقع، نظراً إلى ما تشكّله تلك المنطقة أيضاً من أهمية للأمن القومي الروسي عسكرياً وميدانياً واجتماعياً وثقافياً ومعنوياً.
الخط الأحمر الثالث بالنّسبة إلى الرئيس بوتين هو العلاقة الدبلوماسية مع دول الغرب، وطريقة التعاطي مع موضوع المبعوثين أو الدبلوماسيين الروس الّذين تعرّضوا مؤخراً للإبعاد، واعتُبروا غير مرغوب فيهم في بعض دول الغرب أو "الناتو"، تحت عنوان فرض عقوبات دبلوماسية على روسيا.
وقد كانت إجراءات الروس في التعامل بالمثل مع كل تلك الدول لافتة، مع زيادة واضحة في عدد المبعدين من موسكو مقارنة مع المبعدين الروس من الدول المذكورة، الأمر الذي يوحي بأن الرئيس بوتين، ومن خلال هذه الاستراتيجية، مستعدّ لأن يذهب بعيداً جداً في العلاقات الدبلوماسية مع الغرب، ولو فرغت سفارات وقنصليات تلك الدول في موسكو من جميع دبلوماسييها.
الخط الأحمر الرابع الذي قد يكون الرافعة الأساسية لاستراتيجية الرئيس بوتين في تثبيت الخطوط الحمر الثلاثة المذكورة أعلاه وحمايتها وحماية غيرها طبعاً، يتمثل في تثبيت معادلة تحديث وتطوير وامتلاك القدرات النّوعية الاستراتيجية النوويّة ووسائل إطلاقها، بمعزل عن نظرة المجتمع الدولي إلى ذلك واعتباره كأنه سباق تسلّح أو حرب باردة.
لقد أشار الرئيس الروسي بدايةً في هذا الإطار إلى خطط نافذة لتحديث القدرات النوويّة بنسبة 88%. وهنا تكمن النقطة الأكثر حساسية، لا لأنّ هذا المستوى من تحديث القدرات التدميرية الهائلة يحمل نسبة كبيرة من الخطر على صعيد العالم فحسب، بل الأهم أيضاً أن الرئيس بوتين، وفي قرار رفع وتطوير القدرات النووية إلى هذه النسبة (88%)، يتجاوز معاهدة "ستارت" الجديدة المتعلّقة بحظر القدرات النووية وخفضها، والتي وقّع عليها مع الرئيس بايدن مباشرة بعد تسلّم الأخير مسؤوليّاته في بداية العام الحالي، وكأنّه يردّ مباشرة على الأميركيين الّذي خدعوا العالم والروس بتوقيعهم على المعاهدة شكلياً، بعد أن تحايلوا عليها من خلال تطوير رؤوس نووية تكتية صغيرة، تبيَّن أنها تضاهي في فعاليتها ما يمكن أن تؤمنه الرؤوس النووية الكبيرة التي خفضوا عددها استناداً إلى المعاهدة.
لم يكتفِ الرئيس بوتين أيضاً بالإشارة إلى خطط تحديث القدرات النووية، إنما أشار، وبتركيز وتفصيل أوسع، إلى وسائل الإطلاق الاستراتيجيّة للقدرات النوعيّة، النووية أو التقليدية، والتي وضعها تحت عنوان الأسلحة الفرط صوتية أو ذات السرعة الهائلة التي تتجاوز سرعة الصوت بمستويات كبيرة، وتصل إلى مديات بعيدة جداً (عابرة للقارات)، مثل صواريخ "أفنغارد" أو "سارمات" أو "كينغال" أو الغواصات "المعجزة" "بوسيدون" وغيرها. وبعد أن كان الأميركيون قد اعترفوا بتفوّق تلك الأسلحة الروسية الفرط صوتية في السرعة، عاد الرئيس بوتين ليذكِّرهم بخطط روسيّة مستقبليّة لنشر تلك الأسلحة في أكثر أماكن الصراع والنفوذ حول العالم.
هي رسائل "حمراء" واضحة تعمّد الرئيس بوتين أن يحددها بشكل واضح لكل من يعنيه الأمر، ممن يستهدفون الأمن القومي لروسيا ومكانتها على الصعيد الدولي أو يفكرون في ذلك. وحيث وضع النقاط على الحروف في تصوير نقاط الاشتباك والخلاف مع الأميركيين بشكل خاص، ومع دول "الناتو" بشكل عام، أصبح من الطبيعي أن يستوعب هؤلاء جدية الموقف الروسي الثابت وغير المتهاون، ويكفي هؤلاء أيضاً إلقاء نظرة تفصيلية على طبيعة ونوعية وإمكانيات الوحدات العسكرية الروسية المنتشرة حالياً بين البحر الأسود وحدود الدونباس وبيلاروسيا وكالينينغراد على بحر البلطيق شمالاً، وما يمكن أن تكون أهدافها، لكي يستوعبوا ذلك جيداً.
شارل أبي نادر ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً