للفساد في لبنان أصول وجذور 2/3 ـ أحمد زين الدين

الأربعاء 14 نيسان , 2021 11:34 توقيت بيروت أقلام الثبات

بوما وسلاح وتمرز وأمين الجميل وبدء انهيار الليرة

أقلام الثبات

الفساد في لبنان متأصل وله جذوره ويتخذ أشكالاً مختلفة عامودياً وأفقياً، ويطال كل المؤسسات والجمعيات "الخيرية"، والمجتمع "المدني" وهلم جرا ... .
ويروي الوزير الأسبق الراحل هنري أنه عندما كان نقيباً للمهندسين (1963 - 1964): "بصفتي نقيباً للمهندسين، كان عليَّ أن أدرس طلب انتساب إلى النقابة ومزاولة المهنة، مرفقاً بدبلوم ممنوح من جامعة يوغوسلافية معترف بها، وبسبب ما ساورني من شكوك في صلاح هذا الدبلوم، طلبت إلى أحد مستشاري سفارة بلغراد في بيروت، أن يتأكد، في حضوري، من السيرة الجامعية لمواطني الشاب ومن مستواه اللغوي، فاتضح على الفور أن الوثيقة المعروضة قد دُبِّرت بطريقة غير شرعية، فرُفض الطلب، لكن ذلك لم يمنع واحداً من النقباء الذين خَلَفُوني من أن يصادق على الطلب من دون ان يرف له جفن، لأنه على الأرجح، كان يستشرف أن صاحبه سيكون ذات يوم واحداً من "ممثلي الأمة" الذين هم أيضاً لم يتردد بعضهم في شراء ألقابهم أو انتخاباتهم. منذ ذلك الحين أيقنت أن وجه بلدي بدأ يتغير".
وها هي الأجيال الجديدة في البلاد، تكتشف حياة سياسية فاسدة، ومجتمع مفتت، وطبقة مستباحة، وقرى ومدن مشوهة، بدءاً من العاصمة بيروت التي أحتلتها أسنان جرافات سوليدير، في أوسع عملية لإلغاء الذاكرة الجمعية للمواطنين، بحيث لم توفر حتى الموتى (مقبرى السمطية)، ويمتد الفساد وشراء الذمم إلى ما يسمى "المجتمع المدني" فنبتت مئات الجمعيات مع النزوح السوري إلى لبنان، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في لبنان، كثير منها، حظي بتمويل خارجي، فدايفيد هيل اعترف بعظمة لسانه بالسخاء الأميركي على هذه الجمعيات، وعشرة مليار دولار هبات أميركية ذهب منها أقل من ملياري دولار للقوى الأمنية، والباقي كان لجمعيات المجتمع المدني، ناهيك عن العديد من هذه الجمعيات التي تتلقى دعماً خليجياً بذريعة دعم النازحين الذي لا يصل إليهم من "الجمل إلا أذنه".
وإبان الحرب الأهلية المشؤومة (1975-1990)، وفيما تغذت المليشيات من المال الأجنبي، لم تتورع عن تنظيم عمليات النهب واستثمار المرافئ غير الشرعية، وابتزت مناطقها الخاصة، ليس فقط من أجل تمويل عملياتها الحربية، بل بصورة خاصة من أجل إثراء كبار زعمائها وصغارهم.
وفي تلك الفترة السيئة الذكر، لم يكن ما هو أكثر مردوداً من امتلاك مليشيا أو إمرتها أو قيادتها، شرط أن يحسن ويحرص على توزيع المناوشات العسكرية، وأن لا تؤدي أي هدنة يتم الاتفاق عليها بين المتقاتلين، إلى أن تكون طويلة، حتى لا يؤدي الأمر إلى فتور الحماسة، وهكذا صار عندنا "أثرياء حرب" و"أثرياء جدد".
قبل الحرب الأهلية، لا يعني أنه لم يكن هناك فساد مالي وسياسي، لكن في الماضي، على حد تعبير هنري إده في كتابه "المال إن حكم"، "لم يكن المال بالطبع غائباً تماماً عن المسرح السياسي اللبناني، ولا نضرب على ذلك سوى مثل واحد: العادة الجارية، عند بعض السياسيين المحترفين، الذي يَحْسَبون أن من حقهم أن يعوّضوا المبالغ التي اضطروا إلى صرفها في الحملات الانتخابية، فيجدوا من الطبيعي تغريم المواطنين الذين لا ينتمون إلى دوائرهم الانتخابية. فحين لَفَتُّ انتباه الرئيس فرنجية، منذ عدة سنوات، إلى أن الخوّة التي يفرضها شقيق أحد الوزراء على المعاملات التي يوقعها، وذكّرته بالتعليمات الصارمة التي وجّهها إلى أعضاء وزارته الأولى بوجوب التقيد بالاستقامة المطلقة، أجابني بسماحة: "أنتم كنتم تكنوقراطيين؛ والرجل الذي تحدثني عنه زعيم سياسي".
ولكن هذا الفساد، الذي علينا إدانته، لم يستطع حينذاك أن يطال التوجهات السياسية الرئيسية، فظل محصوراً في نطاق محدود، أما المساعدات الخارجية المقدمة إلى بعض الصحافة بطريقة شبه سرية، أو إلى منظمات وأفراد، فكانت معروفة للعموم، ولكنها لم تكن لتعدل بطريقة جوهرية الرأي العام أو تُغير مجرى الأحداث. في مقابل بعض النواب المنتخبين بــ "فضل" إسهامهم في دفع المصاريف الانتخابية لبعض الاقطاعيين أو رؤساء اللوائح، فإن العديد من المرشحين الذين حاولوا شراء مقعد لهم سقطوا شر سقوط".
وبعد انتخاب النائب أمين الجميل رئيساً للجمهورية، بدأت عملية تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، إذ أنه "بعد حرب الجبل، قرر الجميل أن يعيد تجهيز الجيش بالطوافات والدبابات والمدافع والذخائر من مختلف المصادر، بل تم شراء طوافات يفترض أنها فرنسية... لكن تبين أنها ركبت وأعيد تأهيليها في رومانيا. كل هذه المشتريات البالغة مئات الملايين من الدولارات، دُفعت نقداً وسُحبت من احتياط مصرف لبنان، فبدأ تدهور سعر صرف الليرة بالتسارع، ثم تابع تدهوره، (وهنا كثرت التخمينات بصدد العمولة المدفوعة والمستفيدين منها، لكن العارفين بمثل هذه الأمور متفقون على تقدير المبلغ بأكثر من 200 مليون دولار)، وبعد تسمية الجميل، روجيه تمرز على رأس شركة إنترا، وهي أغنى المجموعات وأقواها في البلد، اتخذ النهب المنظم أبعاداً هائلة، وحُوِّل نتاجه بكثافة وهُرِّب إلى الخارج بعد حسم المبالغ الموزعة محلياً وفق "تدبير" يفترض أن يؤمن له التغطية، (ويقدر الهامش الذي تركه تمرز بمئتي مليون دولار، ويقال أن المستفيدين من سخائه نجحوا في صرف نظر الأنتربول، المكلف بتوقيفه، عن هذه المهمة).
في فترة أمين الجميل أيضاً طرح مشروع تحسين ساحل المتن الشمالي وبدء بتنفيذه، وأُعطي الأمر بانطلاق الأشغال على الساحل الشمالي في آب 1984، لكن أمام الصعوبات الكبيرة العائدة إلى الوضع الأمني، تقطعت هذه الأشغال مرات عدة لتتوقف في كانون الأول 1985، وجرت مفاوضات بين المتعهد ومجلس الإنماء والإعمار فأدت في 21 تشرين الأول 1987 إلى أغرب مراجعة يمكن تخيلها، ففي حين قضى العقد الأصلي بإعطاء الملتزم عشرين بالمئة من الأراضي الصالحة للبناء، أعطاه العقد الجديد ثمانين بالمئة. وضوعفت عوامل الاستثمار المحددة في الخطة التوجيهية التي كانت في أساس المناقصة. بموجب خُطط جديدة مُعدلة بصورة غير شرعية بناء على طلب المتعهد ولمصلحته.
وادَّعت هذه المراجعة التعسفية الاستناد إلى ارتفاع كلفة الأشغال الناتجة أساساً عن سقوط العملة، مُغفلة عن قصد ارتفاع سعر الأراضي محسوباً بالدولار في مقابل تدني كلفة الأشغال بحساب الدولار أيضاً.
"يذكر أنه قد وقَّع تصاميم تحسين الساحل التي عدلها الملتزم بكاملها المهندس نفسه الذي كان اقترح على الحكومة بوصفه وزيراً فيها، تبني التصاميم الأصلية".
كثيرة الصفقات في تلك المرحلة، ومنها قضية جوازات السفر، وكما يؤكد الرئيس نبيه بري في مقابلة مع صحيفة الديار في 17 كانون الأول 1989 أن "جوازات السفر اللبنانية تعرضت للتزوير والبيع" وأن الرئيس أمين الجميل أكثر شخص باعه بـ"الجملة والمفرق" وقال: "حقيقة كان هناك بيع، وانا املك إثباتاً، ويجب تحرك النيابة العامة لهذا الأمر، وحين كنت وزيراً للعدل طالبت بتحريك هذا الموضوع، ولدي إثباتات أن أمين الجميل باع سبعة الآف أو ثمانية الأف جواز سفر".
ولا ننسى أن نهاية ثمانينيات القرن الماضي شهدت صفقة البراميل السامة وطمرها في أكثر من مكان، وقد بدأت هذه القضية بالانتشار في صيف عام 1986 حينما انفجر مستودع في احد الابنية السكنية في منطقة فرن الشباك وذهب ضحيته عشرات القتلى والمصابين بعاهات دائمة، وضرب يومها طوق امني في المنطقة من قبل المليشيا التي كانت مسيطرة، وفي 21 ايلول 1987 ظهرت الموجة الثانية للقضية، حين وصلت الباخرة "رادهست" من إيطاليا إلى الحوض الخامس في مرفأ بيروت محملة بنحو 16 ألف برميل من النفايات باحجام مختلفة قدرت زنتها بنحو 2400 طن.
بعدها جاءت مرحلة ما بعد الطائف وإعادة الإعمار ... وهذه لها قصة أخرى لها تفاصيلها الواسعة.
فإلى حلقة جديدة.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل