أقلام الثبات
يعاني لبنان منذ ما قبل الحرب الأهلية، تداعيات كونه ساحة للتنافس الدولي والاقليمي، وهي التي تجعله عرضة لعدم الاستقرار الدائم كنتيجة للتوتر الذي يطبع علاقات الاطراف الدوليين والاقليميين، او أن يشكّل أحياناً جائزة ترضية على طاولة التسويات الاقليمية، والتي عادة ما تكون مرحلية، فتنفجر الساحة اللبنانية ما أن ينفرط عقدها. ولقد شهد لبنان مراحل عدّة ابرزها:
- مرحلة ما بعد الحرب الاهلية (1990- 2005)
عاش لبنان بعد الحرب الأهلية مرحلة استقرار سياسي وأمني مقبولين، كنتيجة لقيام الأميركيين بتوكيل (السعودية وسوريا) بالملف اللبناني، حيث فرضت الأولى هيمنتها على القطاعين المالي والاقتصاد عبر الرئيس رفيق الحريري، وفرضت سوريا سطوتها الامنية عبر جيشها المنتشر في لبنان، وتقاسم الاثنان النفوذ السياسي.
- مرحلة ( 2005- 2008)
ما ان دخل الأميركيون الى العراق عام 2003، حتى أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن مشروع "دمقرطة المنطقة" التي ستنطلق كالدومينو وتلف المنطقة بأكملها، فتنتقل الديقراطية من العراق الى سوريا ولبنان وايران وسواها...
وهكذا، بدا أن التسوية التي قام بها الرئيس جورج بوش الاب مع الرئيس حافظ الاسد (وتفويضه بحكم لبنان كنتيجة لدخوله في التحالف لتحرير الكويت)، قد انتهت مفاعيلها، فطلب وزير الخارجية الأميركي كولن باول من السوريين الانسحاب من لبنان.
وباغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاها من انسحاب للسوريين عام 2005، وقيام التحالف الرباعي في الانتخابات التي تلتها، بدا أن النفوذ السعودي بات الأقوى اقتصادياً ومالياً وسياسياً في لبنان. وجاءت نتائج حرب تموز 2006، بعكس ما كان يريده الأميركيون وحلفاؤهم في المنطقة، فلم تؤدِ الى هزيمة حزب الله ولا نزع سلاحه، فبقيت السيطرة الأمنية مشتركة.
وهكذا استمرت التوترات الداخلية الى أن حصل اشتباك داخلي أدى الى أحداث 7 ايار 2008، فحصلت التسوية في الدوحة، واعتُرف لحزب الله بوجوده الأمني وكرّس الحلف الاميركي - الخليجي نفوذه السياسي بانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وعودة السنيورة رئيساً للحكومة (بالاضافة الى النفوذ المالي الذي يحتكره منذ التسعينات).
- عام 2011 - 2016
مع حلول موجة "الربيع العربي" على المنطقة، بدا أن هناك محاولة أميركية لإحلال الاسلام "الاخواني" الذي تتزعمه تركيا، مكان حلف "الاعتدال" في المنطقة الذي تتزعمه السعودية. ورحبت إيران المعروفة بعلاقاتها الجيدة مع الاخوان وتركيا، بما اعتبرته "الصحوة الاسلامية".
وكما في كل حركة اقليمية، يتفاعل لبنان - الساحة مع التطورات سلباً أو ايجاباً، فتمت الاطاحة بحكومة سعد الحريري باستقالة ثلث أعضائها. ومع اندلاع الحرب في سوريا، وانخراط اللبنانيين فيها (من جميع الجهات)، باتت الساحة اللبنانية وحركتها السياسية تعيش على وقع تماوج الأرباح والخسائر الميدانية في سوريا.
وهكذا، وبعد توقيع الاتفاق النووي الايراني عام 2015، ودخول الروس الى سوريا، وقيام الجيش السوري وحلفائه بتحرير حلب وتبدل في موازين القوى العسكرية في المنطقة، وعلى مشارف نهاية عهد أوباما، تمّ انتخاب الرئيس عون رئيساً للجمهورية.
- من عام 2017- لغاية اليوم:
مع مجيء دونالد ترامب الى البيت الأبيض، تبدلت التوزازنات والتفضيلات الأميركية في المنطقة، فتعامل ترامب مع السعودية كحليف مفضّل (بعد اسرائيل طبعاً)، وفصل المسار السوري عن المسار اللبناني، فتعامل مع لبنان كجزء من حربه المفتوحة ضد ايران، ومع سوريا كجزء من علاقته مع الروس. وتوترت الساحة اللبنانية من جديد كساحة كباش اقليمي، خصوصاً بعد حصول حزب الله وحلفائه على غالبية المقاعد في المجلس النيابي عام 2018.
واليوم، وبمجيء جو بايدن الى البيت الأبيض، يعيش اللبنانيون المفجوعون بانفجار بيروت، تحت وطأة كارثة اقتصادية - اجتماعية وحجز أموالهم في البنوك، وتحت وطأة معضلة سياسية، من المرجح أن تستمر طالما الكباش مستمر في المنطقة.
وهكذا، ينتظر اللبنانيون أن يحين أوان جلوس الاميركيين والايرانيين الى طاولة المفاوضات، فيتم عندها اللجوء الى "تسوية ترقيعية" تسمح ببعض الاستقرار فترة من الوقت، وهنا يكون التخوف من ان يندفع أحد الأطراف الخاسرة وفي حركة استباقية الى محاولة جرّ الشارع الى اشتباك أمني، ستكون أكلافه عالية لبنانياً، وهو ما حذّر منه السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، ودفع جنبلاط لزيارة القصر الجمهوري. وهكذا، الى أن يحين أوان التسوية الاقليمية التي ستنسحب على لبنان، على اللبنانيين التنبه الى أن البلد مفتوح على جميع الاحتمالات وأن الجميع خاسر فيما لو انفجر الوضع الأمني نتيجة استمرار التعنت ومحاولات الاستقواء بالخارج.