أقلام الثبات
كل الزيارات الخارجية التي قام بها الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع كانت ناجحة بالمعنى الدبلوماسي، لأن هذه الزيارات كانت محددة له، وهو جاهز غُبّ الطلب لها، هادئ، رصين ومستمع جيد، وتنطبق عليه مواصفات "رجُل النَعَم" "Yes Man"، وهو يدرك أن صفة المؤقت التي تلازمه الآن في القصر الرئاسي السوري، من السهل أن تتحول إلى "دائم" حتى لما بعد الفترة الانتقالية التي حددها لنفسه بخمس سنوات، ما دام يلتقط إشارات جهاز التشغيل عن بُعد، سواء من أميركا أو أوروبا أو الخليج، لكن الخطر عليه هو من الداخل الممزَّق لعجزه عن التقاط إشارات هذا الداخل بفعل التشويش الخارجي.
منذ ثلاثة أيام فقط، استفاق الرئيس الشرع على الواقع الداخلي الممزَّق الذي بات يهدد "عرشه"، وأمر بتقسيم سوريا إلى خمس مقاطعات أمنية، وهذا التقسيم الأمني يقع تحت مسمَّى "فيدرالية جغرافية"، وشكَّل لجنة بهذا الخصوص، مع تعيين مساعد لوزير الداخلية على رأس كل مقاطعة، ومن الطبيعي أن يكون هذا المساعد من أبناء هذه المقاطعة وكذلك العناصر الأمنية التي ستكون مولجة بحماية المقاطعة وحفظ الأمن فيها، وتكرَّست فعلياً فيدرالية جغرافية ذات ألوان طائفية، للأكراد في الشمال الشرقي، وللعلويين في الساحل، وللدروز في الجنوب، وللسنة في دمشق وحمص وحماه، وربما للسنة الموالين لأنقرة في حلب.
استفاق الشرع بعد ستة أشهر من الأخطاء الجسيمة، أولها تسريح ضباط وعناصر الجيش السوري، وسجن 15 ألفاً منهم، بالرغم من تقديمهم لأوراقهم بهدف التسوية، وثاني هذه الأخطاء تسريح كافة موظفي الإدارات العامة والأطباء والقضاة بوصفهم من فلول النظام السابق، وثالث الأخطاء فتح السجون بطريقة عشوائية، حيث تم إطلاق سراح 24 ألف سجين من سجن صيدنايا وحده، ومن بينهم القاتل والسارق، ونتيجة ذلك حصلت في سورية خلال أربعة أشهر فقط 400 جريمة قتل بظروف غامضة لأسباب ثأرية أو بدوافع شخصية لأكثر من سبب، وكان الفاعلون ملثمين أسوة بجماعة "الأمن العام"، الذين أثارت تصرفاتهم غضب المواطنين السوريين، خصوصاً في الشارع الدمشقي.
ومع الإشارة إلى أن جرائم الاعتداء والثأر هذه، لا تندرج ضمن ما حصل من جرائم إبادة سواء في الساحل أو ريف دمشق على أيدي "الحمزات" و"العمشات" والأجانب من إيغور وأوزبك وشيشان، ثبت للشرع أخيراً أن الجرائم لم تحصل مثلاً في مناطق "قسد" التي رفضت تسليم سلاحها، ولا في محافظات الجنوب حيث رفضت القيادات الدرزية السماح لقوات "الأمن العام" الدخول إلى القنيطرة ودرعا والسويداء، وبالتالي فرض "الأمن الذاتي" نفسه على واقع سوريا، ومنه انبثقت فكرة "الحكم الذاتي"، والفيدرالية الطائفية المقنَّعة بالجغرافيا، وانقسمت سوريا إلى خمس مقاطعات مع الإبقاء على رمزية دمشق في مركزية القرار الوطني.
وبين أزمة الداخل السوري المنقسم على نفسه منذ وصول الشرع الى الحكم والخطوط الحمراء المرسومة له خارجياً، قد تكون زيارة رجل الأعمال البارز أيمن الأصفري الى دمشق في شهر نيسان الماضي واجتماعه المطوَّل مع الشرع هي التي رسمت خارطة الطريق التي على الشرع سلوكها قبل أن يسقط خائباً عن كرسي الرئاسة.
الأصفري الذي أشيع أنه مشروع رئيس حكومة، نصح الشرع بناء على معطيات دولية بالآتي:
- ضرورة إبعاد المقاتلين الأجانب وعناصر "داعش" والمطلوبين على لوائح الإرهاب الأميركية، والذين باتوا ضمن التشكيلة الجديدة للجيش والقوى الأمنيّة.
- العمل على إصلاح الأخطاء التي حصلت في إقصاء الأقليّات من الحكومة الجديدة، ومعالجة بعض الانطباعات لدى القوى الوازنة في أميركا، لا سيما لمن يعتبرون أنّ الحكومة الجديدة في دمشق كلّها من الجهاديين ولا إمكانية للتعاطي معها.
- إقامة دولة مدنية تعتمد مبدأ المواطنة، ومبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ الديمقراطية والتعدّدية السياسية.
- تعديل صلاحيّات رئيس الجمهورية، بحيث لا تكون مطلقة، ومن دون حسيب أو رقيب.
- إلغاء مسألة “الأمانة السياسية” داخل الوزارات الجديدة، لأنّها تضرب كلّ صلاحيّات الوزير، وتمنعه أن يكون سيّد وزارته، وتعيد استنساخ النظام القديم.
واختتم الأصفري تقييمه للوضع السوري بالقول: "لا شكّ عندي على الإطلاق في أنّ الرئيس أحمد الشرع لديه مشروع وطني ويريد بناء وطن حقيقي، لكنّ لديّ الكثير من المآخذ على بعض التصرّفات والممارسات"، مؤكّداً أنّ "سوريا بلد ممزّق ومنكوب ومدمّر اقتصادياً، وأهمّ شيء الآن هي وحدة البلد، ولا يمكن لأيّ مواطن أن يشعر بالإقصاء من العملية السياسية، لا سيما الأقلّيات من الدروز والعلويين والمسيحيين والأكراد".
وإذ أبدى الأصفري مخاوفه من الفدراليّات أو التقسيم، أضاف: “موضوع الديمقراطية ليس واضحاً، وكان هناك تغييب كامل لهذا الموضوع في الحوار الوطني وفي الإعلان الدستوري"، مؤكّداً أن "لا إمكانية لقيام دولة المواطنة في سوريا في ظلّ وجود دولة دينية، ولا نريد أيضاً دولة علمانية، وأنا المسلم السنّي أريد دولة مدنية يُمارس فيها الجميع معتقداتهم بكلّ حرّية، دون أن يفرضها أحدٌ منهم على الآخر".
البنود التي طرحها أيمن الأصفري، كانت بمنزلة دفتر شروط للدخول في العملية السياسية، وهو لم يجد ربما قدرة لدى الشرع في تنفيذ هذه الشروط حتى لو توفرت لديه الإرادة، لأن القيود الفصائلية التي تكبِّله أكبر وأخطر من أن يتحرر منها.