ماكينزي يُغير على غزة البقاعية لتجديد "النقطة الرابعة" ! ـ أحمد شحادة

السبت 20 آذار , 2021 10:22 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

نفذ قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي عملية استطلاع عسكرية في لبنان، بشكل برمائي، حيث تفقد قبل أيام موقع بئر ماء في بلدة غزة في البقاع الغربي، رافقته فيها المفوضة "السامية" الأميركية في بيروت السفيرة دوروثي شيا.
في زيارته الخامسة إلى لبنان، لم يلتق ماكينزي أي مسؤول لبناني، سواء أكان سياسياً أو اقتصادياً أو إعلامياً، ولا حتى أحداً من الجمعيات "الخيرية" التي يطلقون عليها مجتمعاً "مدنياً"، وبالطبع فالجنرال الأميركي "الكبير" حافظ على المسيرة الأميركية الوقحة بالتحريض على المقاومة أو حزب الله، ولم ينس التعهد بما يطلق عليه "مساعدة الجيش اللبناني" لكي يتصدى لما يصفه "مليشيا حزب الله"، علماً أن الجيش اللبناني لم يتلق أي مساعدة نوعية من الجانب الأميركي، ونشير هنا إلى ما كان قد أعلنه في أيلول 2020 وكيل وزارة الخارجية الأميركية، ديفيد هيل خلال جلسة استماع في لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ، "أن الولايات المتحدة أنفقت 10 مليارات دولار في لبنان، على القوى الأمنية من جهة، وعلى منظمات المجتمع المدني من جهة أخرى، خلال سنوات". 
وتابع هيل قائلاً: "إن دعم واشنطن للجيش اللبناني "يأتي ضمن استراتيجيتنا لمواجهة إرهاب حزب الله"، موضحاً أن "الجيش اللبناني قادر على تنفيذ مهامه، وحزب الله ستكون قدراته أكبر لولا وجود الجيش اللبناني هناك" .. وإذا كانت المساعدات الأميركية للجيش اللبناني لا تتجاوز المليارين أو ثلاثة مليارات دولار، فمن هي "منظمات" المجتمع المدني التي سرقت الباقي ولماذا؟
علماً أن مساعد وزير الخارجية الأسبق جيفري فيلتمان، كان قد أعلن أمام مجلس الشيوخ في 8 حزيران 2010، أن واشنطن أنفقت نصف مليار دولار لتشويه صورة حزب الله.
بالعودة إلى زيارة ماكينزي إلى بئر الماء، فإن هذا الاختيار، عليه عشرات علامات الاستفهام فغزة قرية صغيرة في البقاع الغربي، معظم سكانها مهاجرين، ذلك أن نسبة 65 بالمئة من أبنائها مهاجرون إلى البرازيل وفنزويلا وإفريقيا وتضم أيضاً أكثر من 30 ألف نازح سوري، هم بحاجة للمساعدة على الأقل للعودة إلى بلدهم الذي تمنعه واشنطن واتباعها.
الزيارة البرمائية الأميركية لغزة كما يرى الخبراء العسكريون هي بسبب قربها من الحدود اللبنانية - السورية، حيث تطالب تل أبيب بضبط الحدود بين البلدين، إضافة إلى قربها من الجبهة اللبنانية مع العدو الصهيوني.
إذاً ، اعتبار زيارة ماكينزي إلى لبنان، زيارةً استطلاعية، خصوصاً أن قدومه ترافق بعراضة عسكريّة و6 مروحيّات وإيقاف السير على الطرقات، وخصوصاً بعد أن ضُمّت "إسرائيل" إلى صلاحياته، قبل فترة قصيرة من رحيل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، حيث أصبح هو المسؤول عن الملف الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.
أمام هذه الغارة الميدانية للمسؤول العسكري الأميركي تطرح التساؤلات بشكل أوسع: ماذا يراد للبنان؟ من يتلاعب بلقمة العيش ولأيّ أهداف؟ لماذا التركيز الإعلامي على هذا الواقع وربطه بالمساعدات الدوليّة؟ وكيف يستغله الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة التي تقدم دائماً عروض مساعدات خارجيّة لدوائر مختلفة من الحلفاء والأعداء، بهدف تحقيق مصالح وأهداف محددة. 
ويلاحظ أنه اعتباراً من نهاية الحرب العالميّة الثانية قدمت الولايات المتحدة ما يقارب 12 مليار دولار آنذاك، بهدف إعادة إعمار أوروبا الغربيّة، ومنها ألمانيا الغربيّة رغم أنها كانت عدواً لها. 
لماذا قدّمت الولايات المتحدة كل هذه المساعدات؟ كان الهدف واضحاً، هو ربط كل اقتصادات العالم بالدولار كعملة قياسيّة ومعياريّة، وضرب البنية الانتاجية للاقتصادات المنافسة سواءً في ألمانيا أواليابان. 
تجارب أخرى، تثبت أيضاً أن المساعدات الأميركيّة من نهاية الحرب العالميّة الثانية إلى يومنا هذا، سارت على سكّة واحدة هي مشروع "مارشال" وصولاً إلى فنزويلا، كي تمرر مع المساعدات الإنسانيّة مسائل تخريبيّة وأسلحة.
ونحن في لبنان، لنا أيضاً تجارب سابقة مع الأهداف والمشاريع الأميركية التي تقوم تحت عناوين: المساعدات والتنمية وهلم جرا، ففي 12 كانون الأول 1947 طرح مبدأ ترومان وشمل في البدء كلاً من تركيا واليونان، وفي العام 1951 وافق الكونغرس الأميركي على أن يشمل دول الشرق الأوسط أيضاً ومنها الدول العربية، فقبلت كل من أفغانستان ومصر والعراق وإيران ولبنان والمملكة العربية السعودية وإسرائيل والأردن والباكستان، وحصلت هذه الدول على مساعدات اقتصادية وفنية.
وفي 29 أيار 1951 وقع رئيس الحكومة اللبنانية حسين العويني اتفاقية عامة بموجب النقطة الرابعة حول التعاون بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية، ودخل لبنان بذلك في فلك "مبدأ ترومان"، حيث نصت الاتفاقية المذكورة على أن ترسل الولايات المتحدة خبراء وفنيين إلى لبنان لوضع دراسات فنية وتقديم أجندة أميركية، وتدريب اللبنانيين على استعمال آلات التراكتورات وتدريب اختصاصيين لبنانيين في لبنان أو في أميركا.
وبموجب هذه الاتفاقية كان على لبنان أن يضع تحت تصرف الخبراء الأميركيين العقارات الضرورية للأبنية والمواد اللازمة، وأن يدفع أجور النقليات وغيرها، كما نصت الاتفاقية على إعفاء بعثة "النقطة الرابعة" من الضرائب والرسوم، وكانت هذه المساعدات الفنية المختصة بالمشاريع الصحية والتربوية والزراعية والإنشائية.
ويكشف رئيس بعثة "النقطة الرابعة" في لبنان السيد بيتر، أثناء رده على منتقدي "مبدأ ترومان"، الحقيقة، إذ يقول أن "النقطة الرابعة" مشروع نموذجي لا يستطيع التصرف كمؤسسة مالية في تقديم القروض والمساعدات الاقتصادية المباشرة.
وإذا أضفنا هذا التصريح وقانون سنة 1950 الأميركي على مجمل نشاط بعثة "النقطة الرابعة" يتضح أن "مبدأ ترومان" على نقيض ادعاءات أصحابه "لم يستهدف الاسهام في التنمية الاقتصادية في لبنان والدول الأخرى أو العمل على رفع مستوى معيشة شعوبها".
وبهذا اعتبر الاقتصادي الفرنسي اندريه ليه برجيه الذي كان معروفاً في تلك الفترة في مقال له بعنوان "الدول العربية والنقطة الرابعة منذ مبدأ ترومان" إلى أن الرئيس الأميركي يتمتع بتصور خاص، فتصريحاته حول رفع مستوى المعيشة في البلدان النامية كلام أجوف، لأن الحكومة الأميركية لا تحجب مساعداتها عن مشاريع التنمية في البلدان النامية فحسب، وإنما تلجأ إلى شتى الأساليب لعرقلتها".
حتى أن وزير الزراعة اللبناني في حينه يوسف الهراوي يصرح بأن "النقطة الرابعة" ليست في صالح لبنان"، وطالب بإضافة بند في الاتفاقية حول توريد الآلات الزراعية إلى لبنان.
وفي مؤتمر صحافي عقده رئيس النقطة الرابعة في بيروت قال فيه: "إن جميع المشاريع التي تضعها الحكومة الأميركية للمساعدات الفنية والاقتصادية والعسكرية، تخضع لإشراف دوائر الدفاع المشترك" مما يكشف دون ادنى ريب أن المساعدة الأميركية لم تستهدف رفع مستوى المعيشة في لبنان، كما كان أصحاب المساعدة يزعمون، بل كانت غايتها الأساسية جعل لبنان قاعدة استراتيجية للأميركيين وتابعة لها اقتصادياً وسياسياً، ويؤكد يوسف الهراوي وكان قد أصبح انئذ وزيراً سابقاً للزراعة هذا الواقع بقوله: "إني أصر على تصريحي بأن النقطة الرابعة مساعدة خرافية وهمية، وإني بعد اتصالاتي بالجانب الأميركي وقفت على الحقيقة المؤلمة وهي أن الأميركيين لم يعطونا شيئاً إكراماً لسواد عيوننا، بل أرادوا تحقيق أهداف من وراء هذا الشعار".
وفي مجال إقامة النقطة الرابعة، كانت البعثة الأميركية تصر على مطالبة الحكومة اللبنانية بأن تسمح لها بإقامة اتصالات مباشرة بمختلف وزارات الدولة ودوائرها، متخطية بذلك وزارة الخارجية، وكانت البعثة بهذا الطلب -الذي يتناقض والأعراف الديبلوماسية القائمة التي ما بين الدول ذات السيادة- تحاول التوصل إلى التدخل المباشر في شؤون لبنان الداخلية، كما أدى اشتراط البعثة "تعيين مستشاريين أميركيين في كل وزارة وتريد أن تصبح كل المستندات والوثائق الحكومية تحت تصرف مستشاريها الذين أرادت حشدهم في دوائر الدولة اللبنانية، بحيث يطلع هؤلاء على كل وثائق الدولة الاقتصادية والسياسية والمالية، وهذا يعني أن البعثة كانت تسعى إلى الحصول على اعتراف رسمي بها، كمركز مشروع للاستخبارات، أضف إلى ذلك أن البعثة طالبت بإعفاء البضائع المستوردة من قبل موظفيها الذين أرادت أن تستحصل لهم على حقوق موظفي السلك الديبلوماسي.
بأي حال، فعندما قبلت الحكومة اللبنانية بالمساعدة الأميركية، ظنت بأنها ستسهم في تنمية الاقتصاد الوطني، بإقامة مشاريع الري ومحطات هيدروليكية وتطوير الصناعة، لكن هذا النوع من المشاريع الانمائية لم يدخل، ولا تدخل أصلاً، في أهداف الحكومة الأميركية، فخلال السنة الأولى من توقيع اتفاقية "النقطة الرابعة" تسلمت الحكومة اللبنانية قرضاً بخمسة ملايين دولار، صرف بأكمله على مرتبات موظفي وخبراء البعثة الأميركية ذاتها، فمنذ وجود النقطة الرابعة في لبنان، انفقت جميع مخصصاتها أجوراً للموظفين الأميركيين، ولم تقم بأي عمل يفيد مشروعاً واحداً معيناً من المشاريع الكثيرة التي يحتاج إليها لبنان، وكانت رواتب موظفي البعثة الأميركية ذات معدلات عالية جداً، إذ بلغ الراتب الشهري لأصغر موظف أميركي ما بين 800 - 1200 ليرة لنبانية، وبلغ راتب الموظف الكبير 4 آلاف ليرة، في حين كان الراتب الشهري لأكبر موظف لبناني آنئذ يصل إلى 250 - 400 ليرة لبنانية، وفي السنوات التالية صرفت قروض النقطة الرابعة على تلبية متطلبات النقطة الرابعة.
وكان أكبر انجاز حققته البعثة الأميركية في حقل الزراعة اللبنانية، هو إقامة ثلاث محطات للتجارب الزراعية (مزارع نموذجية) في صور والتربل والعبدة حيث قدمت الحكومة اللبنانية الأرض وبعض المنشآت وتحملت قسماً من النفقات، أما الأميركيون فقد عرضوا احدث آلاتهم الزراعية، وطرق الري الحديثة، وبنوا الحظائر ومستودعات العلف .. الخ، وكان من واجبات البعثة أن تدرب الفلاحين على استخدام تلك الآلات، ولكن البعثة لم تهتم بكثير أو قليل بهذا الموضوع، ولم تكن متحمسة في نقل تجارب خبرائها إلى اللبنانيين. لذا فإنه لم يكن مستغرباً أن تكون محطة تربل أثناء تسليمها إلى الحكومة اللبنانية سنة 1955، مفتقرة إلى عمال فنيين لتسيير العمل فيها كما يجب، فالبعثة بنت حظيرة نموذجية على أحدث منجزات التقنية المعاصرة، وقد صرف على بنائها مبلغ 128 ألف دولار. وهذا المبلغ الضخم أثار انئذ رد فعل لدى المعلق السياسي الأميركي ج سوكولسكي فكتب يقول إن هذه الحظيرة التي كلفت مبلغاً ضخماً سوف يستعرضها الفلاحون الذين لا يزيد دخلهم السنوي عن 100 دولار، وتابع المعلق يقول إن هذه الأمر مدعاة للسخرية، لان الفلاح اللبناني سوف يحدق بالحظيرة ويتساءل عن ذاك الدجال الذي بناها .. ومن ثم يسأل نفسه: ترى ما هو عدد المزارع الأميركية التي فيها حظائر بقيمة 128 ألف دولار، وكان يتم نوع من مصادرة أراضي الفلاحين بحجة إجراء "تجارب" عليها. وصرح النائب أديب الفرزلي رسمياً بأن إدارة النقطة الرابعة تقوم بالاستيلاء على أراضي الفلاحين في البقاع بالقوة وتقدر قيمتها حسب أهوائها، وأن موظفيها يسيئون التصرف تجاه كل من يمتنع عن تسليم أرضه للبعثة.
ومن نافلة القول إن هذا الأساليب والتصرفات التي اعتمدتها البعثة منهجاً لنشاطها لم تكن تحمل في طياتها نظرة جدية للتنمية الزراعية في لبنان، لأن تنمية الزراعة وتطويرها وتحسين وضع الفلاحين بحاجة إلى إجراء تغييرات في العلاقات الزراعية السائدة، ولم يبد الأميركيون اهتماماً بهذه الامور.
كانت المساعدة الأميركية تصرف بكليتها في المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي العسكري. فالخط الأميركي يبقى ذاته، فمن النقطة الرابعة 1950 إلى غارة بئر غزة البقاعية ... 2021 الأهداف واحدة يضاف إليها محاولة استهداف المقاومة التي حققت نصراً على العدو لم يذقه العرب منذ سقوط غرناطة في الأندلس عام 1492م.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل