للفساد في لبنان أصول وجذور 1/3 ـ أحمد زين الدين

الخميس 18 آذار , 2021 07:59 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

يصف الرئيس فؤاد شهاب الطبقة السياسية في لبنان بــ "أكلة الجبنة" ويقدم حسب وصف اللواء غابي لحود وصفاً دقيقاً لرؤية شهاب لأنه: "لم يكن يحتقر السياسة إنما كان يحتقر تجار السياسة وأكلة الجبنة، الذي يعتبرون السياسة بازارات وصفقات يمارسون الكذب، وكان هذا أكثر ما يمقته، كان يشعر بالمرارة حين يرى كثيرين من السياسيين لا يقيمون وزناً لفكرة الدولة ويبحثون دائماً عن حصتهم، ويلجأون إلى إثارة الغرائز والنعرات للوصول إلى موقع، وكان فؤاد شهاب يتوقع من السياسي أن يتصف بالمسؤولية الوطنية وأن لا يتردد في اتخاذ المواقف الصائبة حتى وإن بدت غير شعبية، وكان الذين يتصفون بهذه الصفات يعدون على الأصابع".
منذ ما قبل نظام القائم مقاميتين 1841 وسيرة التحاصص والفساد والنهب مستمرة، "فعندما قررت الحكومة العثمانية وضع اتفاق القائم مقاميتين حيز التنفيذ عام 1841، قامت الخلافات بين الزعماء اللبنانيين حول اختيار القائم مقاميتين وتحديد صلاحيات كل منهما، وفي رسم الحدود بين الدويلتين، وتدخل القناصل في هذه الخلافات، يناصر كل منهم الفريق المنضوي تحت لواء دويلته"(1).
وقد يسجل للفرنسيين بمكرمة على الساسة اللبنانيين لأنهم "لم يفضحوا الذين انقلبوا عليهم فيما بعد، بل أرسلت المفوضية الفرنسية سنة 1941 أوراقها وسجلاتها تحرقها في أتون النار، في هضاب بيت مري، كي لا تقع في أيدي الذين يأتون بعدها، ومن هذه الأوراق ذلك السجل الذهبي الذي يتضمن أسماء جميع الذين كانوا يخدمونها ويبيعونها البلاد في الخفاء، بينما يتظاهرون أمام الناس بالتجرد والنزاهة والوطنية والمستقلة التي لا تقبل انتداباً"(2).
وبلغ بالسياسيين اللبنانيين قديماً أو معظمهم التظاهر مع كل سيد، فحينما صار لبنان تحت الانتداب يقول اسكندر رياشي: "وشاهدت في بيروت يومئذ، إلى جانب قبضايات الميناء الذين كان الفرنسيون قد ضمنوا تأييدهم أكثر - فرساناً يرتدون البرانس البيضاء والحمراء والفساطين المزركشة ويحملون السيوف المعكوفة، وقد كحلوا أعينهم بدائرة وسيعة من كحل الصحارى، يأتون يومياً على ظهوة خيولهم المطهمة للمفوضية يتطوعون في الفرق المحلية العسكرية التابعة للجيش الفرنسي، لإثبات التأييد، وكان ذلك يجري بمواكب وهاجة فرحة مهللة، تحت قيادة زعماء معروفين من عمال عهد الفرنساوي الجديد في لبنان".
يضيف: "وكانت أروقة السراي الكبير تعج يومياً بهؤلاء الفرسان، وخصوصاً أمام باب المسيو مرسييه المستشرق الشهير المكلف حينذاك بقبول التطوع ويدفع الثمن.
وقد بلغت مصاريف هذه المواكب، تأتي لإعلان تأييدها، ما يفوق المليون ونصف المليون ليرة انكليزية، أخذها تقريباً ألف فارس - خرج راح - تعويضاً عن انزعاجهم في المجيء إلى بيروت من الشوف أو من جبل لبنان، ولكن كان يصادف أن كل فارس كان يأتي أكثر من خمس إلى عشر مرات في المواكب المتتابعة، التي ظلت أربعة أشهر تصل إلى بيروت يومياً بهزيج وتهليل، ذلك أن المسيو مرسييه كان يكتفي بأن يحصي عدد الفرسان الذين يأتون دون أن يتبين الوجوه، وكنت أسماء الفرسان تتبدل يومياً، كما كانت الملابس، فلا يعرف مرسييه أو يتجاهل عمداً أن أكثر الذين جاؤوا بالأمس عادوا اليوم، وكان يكفي أن يعد المسيو مرسييه عدد الفرسان الذين يصلون إلى باحة السراي وخيولهم الهائجة التي كانت تحطم بلاط الفناء حتى يدفع على قدر العدد الذي يكون حسبه".
ويقول رياشي: هذا الفساد مستأصل منذ زمن بعيد، منذ عهد الأتراك، عندما كان أهالي هذه البلاد يستعملون كل طرق الإرضاء والتملق لاكتساب عواطف أسيادهم العثمانيين وبدرجة حاذقة ووسيعة جداً، حتى لا نقول إنهم ألقوا دروساً على الأتراك في فن الرشوة والارتشاء والاستثمار".
يتابع: "خلال الحرب العالمية الأولى عندما حكم العثمانيون جبل لبنان مباشرة بعد أن ألغوا امتيازاته، رأينا هؤلاء الأتراك في جبل لبنان عن كثب يأتوننا في البداية رجالاً مستقيمين إنسانيين، وينقلبون بعد حين إلى وحوش كاسرة وفاسقين وسارقين وحرامية، وذلك عندما كنا نفتش عن كسب رضاهم بكل ما عندنا من حيل، وبكل ما عندنا من سبل وطرق للإغراء، ولا أريد أن أقول إن الكثيرات من الحسان كن في رأس أنواع ذلك الإغراء مما يجري في بلاد يدخلها القوي ويحكمها فاتحاً، ولكن ما بولغ فيه أثناء الحربين الكبيرتين، هو أن العدد الأكبر من مئات الحسان كن يصلن إلى أسرة الأسياد والحاكمين الأتراك، ومن بعدهم الفرنسيون والإنكليز والأسترالية عن طريق الحنان الأبوي"(3).
وينقل الرياشي مساجلة بشعة جرت بين نواب كانوا في أروقة المجلس، يتجادلون بعضهم مع بعض، ويقولون الأشياء القبيحة التي سجلها بالقلم والدفتر، فيقول: "كان روكز أبو ناضر المتكلم أولاً مهاجماً خليل أبو جودة:
-    أنت وقفت على سلم السراي وأخذت تقبض وتساوم على الوظائف والتعيين في البلديات!
فردّ خليل أبو جودة قائلاً:
-    وأنت اتفقت مع شركة مياه المنبوخ، وأخذت حصتك من الثمانية ملايين فرنك التي أمرت الحكومة وبعض النواب في إعطائها إياها!
وقال محمد العبود مخاطباً الشيخ فريد الخازن:
-    أنت الذي لك حصة في زراعة الحشيش في عكار وبلاد بعلبك وقد اكتشف الفرنسيون أمرك!
وقال للشيخ يوسف الخازن:
-    وأنت الذي قبلت المال من البنك السوري عند تجديد اتفاقيته، ولما كان هذا البنك فرنساوياً فلا شك أن مديره أعطى المفوضية قائمة بأسماء جميع النواب الذين قبضوا ثمن سكوت مقابل تصديقهم الاتفاقية مما يجعلنا بنظر الفرنسيين نواباً للسلب والنهب.
وقال يوسف الزين:
-    أنت الذي طلبت من شركة البترول مالاً لتسعى لها في التصديق على امتيازها، فذهبت الشركة وقالت للفرنسيين متأسفة: "أود من كل قلبي أن أعطي الخزينة اللبنانية ما تطلبه، ولكنني لا أعرف إذا كنت مضطرة أن أعطي نواب لبنان ما يطلبونه". وبعد هذا، أعطت الشركة للمفوضية أسماء النواب الذين كانوا يساومونها على المال، مقابل الموافقة على مشروعها، فقالت المفوضية للشركة: "الأفضل تأجيل البحث بضعة اشهر، إذ حينذاك لا تجد الشركة أمامها نواباً يزاحمون الخزينة..."
ويتابع أهل جهنم عتابهم وشجارهم فيقول الشيخ فريد للخباز:
-    وأنت الذي جعلت المجلس مغارة للصوص... أنت علي بابا. وعملت من جريدة الأوريان مكتب توظيف وسمسرات،
ويقول غيره وهو يتخاصم مع روكز بك:
-    وأنت الذي ما تركت بلدية في منطقتك إلا ووضعت عليها جزية... وأنت الذي بعت وظائف المخاتير والنياشين بأسعار معينة!
وقال الشيخ فريد لنائب معروف من بيروت:
-    وأنت الذي أعطيت الشواطئ لعجرم من دون بدل وأنشأ فيها حماماته المعروفة. في حين أن البحر وشاطئه ملك للحكومة، وليس لأحد غيرها أن يضع يده عليهما!
وقال نائب غيره: "وأنت تحمي البانسيونات والملاهي الفاسقة وألعاب القمار، مقابل رسم تأخذه منها، كما كان يفعل آل كابوني في أميركا"! 
انتهازيون وفاسدون 
منذ أن كان لبنان صغيراً ثم كبيراً كانت عمليات البيع والشراء عند السياسيين، ومن الأمثلة على ذلك، أنه في العام 1920م عند إعلان دولة لبنان الكبير، وعندما جمع الملك فيصل في الشام المؤتمر السوري كان هناك يوسف نمور عضواً في المؤتمر السوري فيما كان شقيقه موسى عند الفرنسيين ومن أشد أنصارهم في البقاع.
وكان أسعد حيدر عضواً في المؤتمر السوري ونجله عضواً في اللجنة الاستشارية الفرنسية في لبنان.
وكان إسكندر عمون مع الإنكليز وشقيقه داود مع الفرنسيين، فيما بعد كانت رجل كميل شمعون في فلاحة الإنكليز ورجله الأخرى في بور الفرنسيين إلخ...(4).
ومن مذكرات الجنرال الفرنسي دانتز، الذي كان يشغل مركز الحاكم العسكري في لبنان أيام الحرب العالمية الثانية، يقول: "لقد كنت أمثل حكومة فيشي في لبنان وكنت على تواصل مع المخابرات الألمانية، لكنني في السر كنت أخدم تحت قيادة ديغول من أجل أن أحرر فرنسا من الاحتلال الألماني ... ولكن ما كان يذهلني هو الطبقة السياسية في لبنان حيث كانوا يتوافدون إلى مكتبي لإعلان الوفاء والتأييد لحكومة فيشي وللألمان، وكانت تقاريرهم تصل إلى مكتبي ومجملها يركز على اتهام بعضهم بالعمالة لبريطانيا وديغول؟، وبالمقابل عندما كان يأتيني البريد السري من ديغول كنت أفاجأ أن نفس الأشخاص يراسلون ديغول لإعلان الوفاء والولاء لفرنسا الحرة ولديغول، ويتهمون بعضهم بعضاً بالخيانة والتبعية لحكومة فيشي!".
أضاف دانتر: "لقد كانوا يستلمون المال من الجميع، ويبيعون كل شيء، وعندما نسألهم عن مطالبهم يكون جوابهم نريد لبنان سيداً حراً مستقلاً!.
وهنا أسأل نفسي: إذا رحلنا عنهم فلمن سيبيعون بضاعتهم لكي يقبضوا".
وفي عهد شمعون دخلت كل المنافسات الدولية إلى الأرض اللبنانية، وصار الدفع والقبض علناً، لكن ضمن نطاق ضيق، حتى الدول الكبرى كانت تشتري الذمم بالسر، ومثال على ذلك، أن الأميركيين قرروا شراء الذمم للتجديد لشمعون، فخصصوا عشرة ملايين دولار لهذه الغاية.
لكن أحداً لم يعرف أن الأميركيين هم الذين يقومون بالبيع والشراء، لأن الجميع تصوروا أن العراق هو من  يقوم بهذه المهمة، لكن السفير العراقي في بيروت كشفها من دون أن يدري وينتبه، حينما كان يعتذر عند مقام عال قريب جداً من شمعون، ويقول مجيباً رداً على سؤال: "كان من الواجب أن يصل اللازم هذا الأسبوع، ولكن الأمريكان تأخروا في دفع باقي العشرة ملايين دولار".
كان الأميركيون "يريدون أن يبرأوا أنفسهم من تهمة التجديد لشمعون، ولهذا أرادوا أن يصبغوا هذه العشرة ملايين دولار صباغاً عربياً محضاً، فيساعد في الحقيقة العراق في التجديد بمال يلبس رداءاً عراقياً، في الوقت الذي كان فيه مالاً أميركياً ألفاً بالألف"(5).
وفي زمن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م واتخاذ القرار الإسرائيلي بانتخاب بشير الجميل رئيساً صوِّرت الأمور وكأنها اختيار داخلي، رغم واقع ميزان القوى ... فدبر أمر انتخاب بشير عربياً ودولياً من خلال سفر الرئيس المنتظر إلى الطائف، ودولياً من خلال الضغط الأميركي، من دون أن يغيب عن البال وسائل الترغيب والترهيب لانتخاب بشير الجميل الذي حصل في  ظل الدبابات الاسرائيلية.
أمين الجميل تصور نفسه أنه بطل الأميركيين، فارتكب خطيئته من واشنطن "بأن مدافعه سترتد إلى دمشق" فانهار مع اتفاق 17 أيار، وتسبب بانهيار الليرة اللبنانية.
في العام 1988م عرقل انتخاب رئيس جديد للبلاد، بفعل التدخلات الأميركية والإقليمية .. وتصور الجميع أن الأبطال الداخليين هم وراء ذلك، لأنه كان مازال هناك بعض الحياء .. وبعد الطائف، ظل "الوحي" ينزل على نواب "الأمة" لكن مع كثير من السرية والحياء . في هذه الأيام كل شيء صار في العلن، مجلس الأمن، وأمين عام الأمم المتحدة، صار له دور في انتخاب رئيس لبنان، الإدارة الأميركية كلها من رأسها حتى أصغر موظف في الخارجية الأميركية صار يتدخل في التفاصيل الصغيرة والكبيرة .. والسفير أو السفيرة في بيروت، يناقش هذا، ويطلب من ذاك، ويعرقل هنا، ويأمر في مكان آخر .. وزير خارجية فرنسا كان يخيم في بيروت مع مبعوث له، ويحاول أن يوفر حلاً ما، الاتحاد الأوروبي بوزراء خارجيته وسفرائه ومندوبيه . . التدخل صار علناً، بلا أي حياء أو خجل . . واللبنانيون ينتظرون "الوحي"  . . لكن من أين سيأتي . . ؟.
في زمن الوصاية السورية كان الكل يحجون إلى عنجر والبوريفاج ليحظوا برضا ضابط مخابرات، ماذا تغير؟
اليوم: تصوروا يطبلون للعقوبات الأميركية، يبررون للسفيرة الأميركية تدخلها في الشؤون الداخلية اللبنانية، حبذا لو يستفيدون من تجارب وأمثلة التاريخ، حبذا لو يعرفون تجربة الضابط النمساوي الذي خان بلاده لمصلحة نابليون بونابرت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر
(1) السفير عادل اسماعيل، من مقدمة كتاب "مجلس النواب في ذاكرة الاستقلال اللبناني"، تأليف عدنان ضاهر ورياض غنام.
(2) "قبل وبعد"، اسكندر رياشي.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) انظر كتاب "لماذا الحرب في لبنان كل 15 عاماً"، تأليف أحمد زين الدين.
(5) المصدر السابق نفسه.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل