مقالات مختارة
وبقدر ما تنفس العالم الصعداء لرحيل دونالد ترامب الذي عرفناه عنصرياً يحب نهب ثروات الشعوب وسفك الدماء فإن العالم ما يزال يترقب وبحذر شديد كلّ كلمة أو توجه أو اختيار شخصية لموقع هام في الإدارة الأميركية الجديدة لأن ما يريد أن يعرفه العالم هو التوجه الحقيقي لهذه الإدارة وتأثير هذا التوجه على السلم والأمن الدوليين وعلى مسار التنمية والتعاون في العالم. ولا شك أنه بعد خطاب القسم يعتبر خطاب الرئيس بايدن في وزارة الخارجية الأمريكية أول تعبير عن توجهاته الجديدة علماً بأن الرؤساء الأمريكيين معروفون بأنهم يقولون شيئاً ويعملون شيئاً آخر.
لقد تعمد الرئيس بايدن التركيز على عودة الدبلوماسية لتمثل الأولوية في سياسة الولايات المتحدة ولتبدأ في مواجهة التحديات العالمية، ولكنه يريد أن يفعل ذلك بالتعاون مع الحلفاء والشركاء الذين برأيه يؤمنون بالديمقراطية ويدافعون عنها والذين يشكلون عصب الأسرة الدولية من أجل مواجهة التحديات والقلق من أي توجهات لا تنسجم وهذا المسار.
المقلق في الموضوع أن الرئيس بايدن خصّ دولاً بعينها كأصدقاء وحلفاء يؤمنون بالديمقراطية وأن الولايات المتحدة ستعمل مع هؤلاء لدعم استعادة الديمقراطية وحكم القانون ولتحميل المسؤولين في بلدان أخرى نتائج أعمالهم؛ أي أنه وسواء قصد ذلك أم لم يقصدْ قد قسم العالم إلى قادة للديمقراطية وحكم القانون وآخرين خاضعين للتقييم ومسؤولين عن عدم التزامهم بما خطّته وقرّرته هذه الدول. وذكر التعامل مع الخصوم حيثما يخدم ذلك مصلحة وأمن الولايات المتحدة الأمريكية ومع أنه أشاد بتمديد اتفاقية "ستارت" الجديدة مع روسيا يصبّ في مصلحة الاستقرار النووي، ولكنه من ناحية أخرى أدلى بدلوه في قضية نافالني واعتبر سجنه قمعاً لحرية التعبير والتجمع السلمي وأنّ ذلك هو مصدر قلق له وللأسرة الدولية. ولا شك أنه يستخدم الأسرة الدولية ليشير إلى الحلفاء والأصدقاء الذين ذكرهم وليعني أن هؤلاء يمثلون العالم برمته وأن أي نهج أو مسار لا يتوافق مع ما يريده هؤلاء فهو خارج عن غطاء الأسرة الدولية وحكم القانون، كما أدلى بدلوه في قضية بورما ودعا إلى إطلاق سراح نافالني مباشرة في روسيا.
وأكّد أن الولايات المتحدة ستواجه تحديات تهدد الرخاء والأمن والديمقراطية للولايات المتحدة من قبل منافسها الأساسي ألا وهي الصين وأضاف: "سوف نواجه إساءات الصين الاقتصادية ونواجه أعمالها العدوانية لنحدّ من هجوم الصين على حقوق الإنسان والملكية الفكرية والحكم العالمي لها.
ومع أنه قال في الفقرة التي تليها أنه مستعد أن يعمل مع بكين حيث يجد في ذلك خدمة لمصلحة الولايات المتحدة ولكن المهم في الموضوع هو أن الرئيس بايدن ما زال يرى في حلفائه وأصدقائه في الغرب والناتو طرفاً متفوقاً على بقية بلدان العالم وقادراً على أن يعلّم العالم قيم الأمن والحكم والسلامة؛ أي أنه لا يرى العالم متساوياً في الحقوق والواجبات والقدرة على الإبداع والتميّز بل مازال يرى العالم بوصائية غربية استعمارية متعالية على أساليب الحكم في الدول الأخرى نابعة من الشعور بالفوقية الغربية والإيمان بتميزها عن بقية الدول والشعوب في العالم وهنا بالذات تكمن مشكلة الولايات المتحدة ومشكلة العالم الغربي الذي لم يتمكن بعد من إدراك حقيقة أن العالم قد تغيّر وأن عقلية الاستعمار الغربي ونظرته للدول النامية ونهبه لثرواتها هي التي أدت لحروب متتالية ولانتشار الفقر والاستبداد في هذه البلدان وأن الصين قد تجاوزت كونها قوة منافسة اقتصادياً للولايات المتحدة لتفرض نفسها كقوة أولى ليس فقط في العلم والتكنولوجيا والسرعة ودقة الأداء وإنما لتفرض نفسها كقوة أخلاقية تطرح حلولاً مقبولة جداً لدى معظم شعوب الكون للتحديات والمخاطر التي تواجه سكان هذا الكوكب في هذه المرحلة من تاريخهم.
وإذا أخذنا على سبيل المثال مواجهة تحدي كوفيد 19 والذي هو أكبر تحدٍ واجهته البشرية في العامين الماضيين نلاحظ الفرق الشاسع بين أداء الصين من جهة وأداء الولايات المتحدة والغرب من جهة ثانية؛ فالصين نالت إعجاب العالم بسرعة تحكمها بهذا الوباء واليوم تقدم اللقاح مجاناً للدول النامية وتدعو لأن يكون هذا اللقاح متاحاً وبأسعار مقبولة لجميع دول العالم.
وإذا ما أردنا توسيع دائرة المقارنة فإني أرى أن الكلمة التي ألقاها الرئيس الصيني شي جين بينغ في دافوس في 25 كانون الثاني 2021 أي قبل عشرة أيام فقط من خطاب بايدن في الخارجية الأمريكية تمثل منهاج عمل لكلّ المؤمنين بالمساواة بين البشر ولكلّ الراغبين بصدق في إيجاد طريق خلاص البشرية من الحروب والاحتلال والصراعات التي تستنزف طاقة البلدان والشعوب وتودي بحياة الأبرياء من منطلقات عنصرية أو استعمارية أو طامعة بثروات الآخرين أو بترويضهم ليكونوا على شاكلتها وليصبحوا طوع بنانها في كل ما تريد وترتأي.
كلمة شي جين بينغ تبدأ باعتبار الاختلاف جزءاً طبيعياً من كل شيء على هذا الكوكب إذ لا توجد ورقتا شجر متطابقتان ولكنّ التعددية نعمة لأنها ترفد التعاون برؤى وأفكار وحضارة وتجارب مختلفة تغني هذا التعاون وتجعله خلاقاً ومثمراً، وفي الحقيقة فإن التعددية في الرؤى والسياسات والتجارب هي أساس الديمقراطية، أما التفرّد بالتفوق الغربي فإنه عين الاستبداد على النطاق العالمي وهو مصدر الخطر على الأمن والسلم العالميين.
الفرق الجوهري بين كلمة الرئيس الصيني جين بينغ وكلمة الرئيس بايدن هو أن الرئيس الصيني يرى العالم كتلة واحدة تسير في مركب واحد ولها مصلحة واحدة في سير رحلة هذا المركب إلى برّ الأمان، ويرى في قادة وركاب هذا المركب طاقة بشرية قادرة على إنقاذه وإنجاح رحلته إذا ما كانوا على قلب رجل واحد لا فرق بين الأبيض والأسود ولا بين الصغير والكبير إلا بما يقدّمون، بينما نَصَّب بايدن حلفاءه وشركاءه أوصياء على العالم وقرّر أنهم قادرون أن يعلّموا العالم قيم الديمقراطية والحكم وأنه من حقهم التدخل في شؤون الدول الداخلية حتى تقبل هذه الدول مكرهة أو مجبرة أن تكون على شاكلتهم.
لقد وجدتُ في كلمة جين بينغ صدى حقيقياً لقول الله عزّ وجل: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"، كما وجدتُ بها صدى لقوله تعالى: "ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم " لأن جين بينغ مجّد الاختلاف واعتبره نعمة لا نقمة وهذا بالذات ما دعت له الأديان السماوية جميعها، كما اعتبر أن بيتنا جميعاً هو هذا الكوكب وأن مصلحة البشر القاطنين فيه هي المصلحة العليا للدول والبشرية جمعاء. لقد انطلق جين بينغ من فكرة أن الازدهار يجب أن يعمّ بعيداً عن التعصب الإيديولوجي والتمييز وأن العيش المشترك والمنفعة المشتركة والتعاون المربح للجميع هي قواعد العمل الأساسية التي تساعدنا جميعاً على التغلب على تحديات العصر صحية كانت أم اقتصادية أم تنموية أم علمية وتقنية.
لقد ذكرني الرئيس الصيني بالرئيس مهاتير محمد حين قال: “بعد أن ازدهرت ماليزيا لابدّ أن نعمل على ازدهار جيراننا لأننا لا يمكن أن نحافظ على الازدهار في جوار فقير وغير قادر على التعاون والتعامل معنا"؛ فبعد أن حقق الصينيون ازدهاراً لافتاً للصين وبزمن قياسي يضعون اليوم رؤية لازدهار العالم وللتعاون المثمر والمسالم والمحترم بين جميع أبناء هذا الكوكب.
فلنستمع لما يقوله الصينيون ولنعمل معهم آملين أن يقرأ الرئيس بايدن وحلفاؤه وشركاؤه خطاب جين بينغ ويضعوا يدهم بيد هذه القوة الصاعدة التي تمثل أملاً لنا جميعاً بمستقبل أفضل للبشرية جمعاء. كما آمل ألا يقود الخوف الذي أبداه بايدن من الصين والانحياز الأيديولوجي لأنظمة بعينها إلى صدام تدفع البشرية ثمنه قبل العودة إلى الحكمة الصينية القديمة التي دعا لها جين بينغ من التعاون والتآلف والعمل المشترك المربح لجميع سكان هذه الأرض.
د. بثينة شعبان ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً