أقلام الثبات
تتكامل هجمة منظومة الفساد وأرباب الطائفية المتحكمين معاً بلبنان وشعبه، في استشراس معهود منهم، بعد أن افتضحت الاعيبهم وسياساتهم، التي افقرت اللبنانيين وتدفع بهم بسرعة نحو الجوع، في خدمة واضحة للسياسات الأميركية -"الإسرائيلية"، التي تعمل على إخضاع لبنان وشعبه، لينضم صاغراً إلى طابور الخيانة العربي الذي تقوده المملكة السعودية، تحت شعار "السلام"، الذي لا يحمل غير معنى التسليم الكامل أمام الغزوة الصهيونية للمنطقة العربية؛ ووضع الرقاب والمصالح والثروات تحت تصرفها. والتخلي عن قضية فلسطين وشعبها، مقابل الحفاظ على عروش وكراسي ومصالح "المطبعين" مع العدو "الإسرائيلي".
وإذا استثنينا المقاومة التي قدمت الدماء والأرواح دفاعاً عن لبنان وشعبه، فإن كل من في السلطة، سابقاً وحالياً، هو جزء من هذه المنظومة، ما بين فاسد يدافع بكل قوته عن فساده؛ وبين طائفي يحمي الفساد والفاسدين، بما يوفره لهم من حصانات و"خطوط حمر" ترسمها مرجعيات الطوائف، تمنع بها ملاحقتهم أو مساءلتهم. لأن بقاء الفاسدين أقوياء شرط لإنتظام توزيع أسلاب الوطن؛ وعدم إبتلاع غيلان الطوائف حصص بعضها البعض.
والأخطر في عمل هذه المنظومة الخبيثة، أن كل ما تقوم به يتحرك وفق الإيقاع الأميركي، الذي تعزفه السفارة الأميركية في عوكر، فالواجهات السياسية-الدينية-الإقتصادية لتحالف زعماء الطوائف واصحاب المصارف، تواكب في أعمالها وحتى في شعاراتها، مخطط الضغط الأميركي على لبنان. ولم يكن قرار فرض الرسم المالي على تطبيق "الواتس آب" العام الماضي، إلا إشارة إنطلاق هذه الهجمة المرتدة للإمساك بكل تفاصيل حياة اللبنانيين، بما تضمنته من إستيلاء على الشارع وتوجيهه بما يخدم المخطط الأميركي. ثم إستغلال تلك الفوضى لسحب العملة الصعبة من السوق. وتهريب ما لم يسرقه السياسيون من أموال اللبنانيين إلى الخارج. وصولاً إلى الدعوات المشبوهة للحياد والفدرلة وغير ذلك من الشعارات، التي يعرف أصحابها أنها غير قابلة للتطبيق، لكنهم يطرحونها للإبتزاز لفرض ما عجزت العقوبات الأميركية عن تحقيقه حتى الآن.
آخر ما تفتقت عنه عقول الفاسدين الإجرامية، هو الدفاع عن المتهمين بالفساد من جهة؛ وتمييع حملة ملاحقتهم من جهة ثانية. ففتح ملفات فساد بعض من تبوأ مراكز عليا في بعض المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية، بات في عرف بعض السياسيين وأبواقهم المتنقلة على شاشات التلفزة، إستهدافاً للمؤسسات. وبالتالي، فإن حماية تلك المؤسسات يكمن في عدم التعرض لمن أفسد وسرق المال العام وارتشى خلال فترة تبوئه مركزه في المؤسسات والإدارات العامة.
كما تتكشف لعبة حماية كبار السياسيين من روؤس الفساد، عبر إستدعاءات قضائية إنتقائية. إذ بات معلوماً أن رسالة القاضي الذي يتولى التحقيق في ملف إنفجار مرفأ بيروت، إلى مجلس النواب، تضمنت أسماء أربع رؤساء حكومات وأحد عشر وزيراً، فما عدا مما بدا، أن يصبح المطلوب للتحقيق الرئيس البريء الوحيد بينهم حسان دياب؟ في حين اسقطت أسماء رؤساء الحكومات الآخرين ومعظم أسماء الوزراء من الإستدعاءات. فشحنة الأمونيا، كما يعرف كل المتابعين، دخلت مرفأ بيروت في عهد حكومة نجيب ميقاتي، الذي بقي في السراي ستة أشهر بعد وصولها. وتراس تمام سلام الحكومة لثلاث سنوات؛ والشحنة في المرفأ. ثم تسيّد السراي سعد الحريري لثلاث سنوات والشحنة أمام عينيه في المرفأ. بل أنه زار مع أركانه ووزير الأشغال في حكومته مرفأ بيروت؛ ومرّ قرب مستودع المواد المتفجرة. في حين أن حسان دياب ترأس الحكومة لأقل من ستة أشهر سبقت الإنفجار المشبوه. فهل هناك شبهة أكثر من طريقة التعامل مع هذا الملف السياسي بامتياز؟
هذه الهجمة الشاملة والصاعقة التي تنفذها منظومة الفساد، هي إنعكاس لشعورها بالقوة والجبروت، فهي أطفأت حراك الشارع. وأعادت تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة. في حين يعرف اللبنانيون أن الحريرية ورموزها وحلفائها المعلنين والمضمرين، هم منظومة الفساد وهم أفراد معروفون ومعلومة إرتكاباتهم في الحكم طوال الحقبة الماضية. وأن الفاسدين ليسوا أشباحاً أو كائنات من كوكب آخر. وما إسترجاعهم لموقع الهجوم إلا لإحساسهم بأن اللبنانيين، الذين بات أكثر من نصف عددهم تحت خط الفقر، خانعون وعاجزون عن الثورة، بفعل تكبيلهم بأصفاد الطائفية وبروايات التخويف من الآخر، التي ترويها لهم مرجعياتهم السياسية والدينية المتواطئة عليهم. وما السعار الطائفي الذي تشهده بعض الفضائيات هذه الأيام، إلا جزءاً من حملة الخداع والتضليل التي ترمي إلى حماية السياسيين الفاسدين ومنع اللبنانيين من الإحتجاج والثورة، بعيداً عن إستغلال تحركهم من قبل الجمعيات والمنظمات "المدنية"، التي تتمول من ديفيد هيل وأمثاله ومن دول أوروبية وخليجية.
وإذا كانت منظومة الفساد تزداد شراسة ووقاحة، فإن ذلك دليل على شعورها بالخطر، لإفتضاح إرتكاباتها بحق اللبنانيين، الذين باتوا على يقين أنها كالمرض العضال لا بد من استئصالها، عبر استئصال هذا النظام الطائفي من أساسه، لتحل محله دولة المواطنة والعدالة والكفاءة وتكافوء الفرص.