أقلام الثبات
تتولى الأيام والتطورات كشف التكليفات المحلية، من مخطط الضغوط الأميركية على لبنان. ويبدو واضحاً التكامل بين ما نفذ لبنانياً في السابق، من تمهيد لهذه الحرب الأميركية الضروس؛ وبين ما يجري تنفيذه فصولاً هذه الأيام، من قبل قوى محلية، بوقاحة غير مسبوقة، إذ أن أصحابها يحملون بيد الأجندة الأميركية؛ وباليد الأخرى شعارات السيادة والحرية والإستقلال الكاذبة، التي يدعونها لأنفسهم ولمشاريعهم. وما بين تبعيتهم وارتهانهم للقرار الأميركي، يدفع لبنان واللبنانيون، مثلما دفعوا طوال الحقب السابقة، ثمن طموحات البعض الوصولية، التي تخفي أمراض الطمع والجشع والخيانة تحت أثواب الطموح والوطنية المزيفة.
وإذا كان الفاسدون والمتآمرون قد تولوا في السابق، من مواقعهم في أعلى مسؤوليات ومراتب الدولة والحكم، نهب البلد وسرقة خيراته وأمواله في صفقاتهم والتزاماتهم؛ ومن ثم إغرقوه في مستنقع الديون، التي تفوق طاقته وقدرته على تحملها، ثم إستولوا على ما في البنوك من أموال الشعب، مع شركائهم أصحاب تلك البنوك، وهربوا معظمها إلى خارج الحدود، في تواطؤ مكشوف لتمهيد الأرض للعقوبات ألأميركية، لتفعل فعلها في الداخل اللبناني، فإن التطورات تفاجىء اللبنانيين بأدوار يؤديها كومبارس من الأوزان الثقيلة في السياسة أو غيرها، خصوصاً من تجار الدين والطائفية والعصبويات العديدة، التي جرى ترسيخها بين اللبنانيين.
أول تلك الأدوار، أن هناك من وضع خطوطاً حمر باسم الطوائف والمذاهب، لحماية الفاسدين ولمنع ملاحقتهم وتحصيل حقوق الوطن والقانون منهم. وليست الخطوط الحمر التي تحمي فؤاد السنيورة ورياض سلامة ومؤخراً جان قهوجي وغيره من كبار الضباط المتهمين بالفساد (على ما سرب مؤخراً)، إلا عيّنة عن الحمايات التي يتمتع بها كل من تبوأ منصباً رفيعاً ومارس منه الفساد بشقيه المتفلت أو المقونن.
ثاني تلك الأدوار، كان تلقف الدعوة الأميركية لإنتاج سلطة ترتهن لقرارهم بالكامل، عبر المطالبة بإنتخابات نيابية مبكرة ودفع رئيس الجمهورية للإستقالة قبل إنتهاء ولايته. لكن هذه المحطة كانت خائبة، لأن أصحابها كشفوا حقيقة مرامهم برفضهم تغيير قانون الإنتخاب. ومن يصر على إبقاء النظام الطائفي ويرفض إقرار قانون إنتخاب غير طائفي، ليس صادقاً في رفض الفساد ومحاربة الفاسدين، لأن هذا النظام ما هو إلا واجهة لتحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف. ولا يمكن الحد من تسلط زعماء الطوائف والزبائية التي تحولهم إلى زعامات شعبية، على الرغم من فسادهم، إلا بالإنتقال إلى نظام الدولة المدنية غير الطائفية، عبر إقرار قانون إنتخاب غير طائفي بدوائر موسعة. وهذا أحد بنود إتفاق الطائف التي لم تطبق منذ ثلاثين سنة.
أما إقالة الرئيس، عبر حملة "إرحل" وهي تكرار لما عرف ب"حملة فل" الفاشلة، التي إعلنت في وجه الرئيس الأسبق إميل لحود، التي سقطت لأن الشعار كان أكبر من قدرة مطلقيه شعبياً، فأكثر من نصف الشعب لم يكن معهم. ولأن الرئيس لحود، الذي لم يكن يملك حزباً ولا كتلة برلمانية، لكن كان لديه حلفاء أقوياء على رأسهم المقاومة، صمد في وجه تلك الحملة وترجم موقفه بقوله أنه ينتظر من يريد إسقاطه على مفرق قصر بعبدا، على ظهر دبابة ووراء مدفع. فكيف الحال مع ميشال عون، الذي يقف خلفه جمهور واسع وأكبر كتلة برلمانية وحليف قوي. والأهم أن الذين يزايدون عليه ويحاربونه في بيئته الطائفية، هم الذين يتولون التحريض على إسقاطه، مما خسرهم مصداقيتهم وأسكتهم عن هذا الشعار ولو إلى حين، فمن يزايد مسيحياً، لا يعمل على إضعاف أعلى موقع مسيحي في الدولة وكسر هيبته.
ثالث تلك الأدوار المشبوهة، هو في الدعوة إلى التقسيم، تحت ستار الفيدرالية حيناً والإتحادية حيناً آخر واللآمركزية الموسعة في وجه ثالث. هذه الدعوات التي يقتضي تنفيذها إشعال حرب أهلية جديدة، تنتج تطهيراً للمناطق المختلطة. وكل لبنان مناطق مختلطة. أي أن أصحاب هذه الدعوات يسعون لإشعال حرب دموية وإفتعال مجازر بين اللبنانيين ليصلوا إلى غاياتهم. وهذا فوق طاقتاهم المتوفرة، حتى لو كانت 15 ألف مقاتل كما نقل عنهم، أو كانت 50 ألفاً، كما صحح أحد اتباعهم. لذلك تبدو كل هذه الألاعيب والأدوار حالة هذيان، أدت هذه الأيام إلى إفتعال صدامات تبدأ كالعادة في الجامعات لتنتقل بعدها إلى الشوارع والتجمعات السكانية، وسط تلويح مفتعليها بأنهم جاهزون للحرب الأهلية. لكن هؤلاء سرعان ما سيحبطون، عندما يدركون أن الأميركي يستخدمهم في حملته الضاغطة لإجبار لبنان على القبول بالمطامع "الإسرائيلية" التوسعية، التي باتت معروفة لكل اللبنانيين. وأن دورهم هو أن يكونوا حطباً للحروب الأميركية وبديلاً عن الضحايا الأميركيين وليس العكس. ولذلك، فإن فضح هذه الأدوار وصلابة قوى محور المقاومة في لبنان والمنطقة وصمودها الأسطوري، كفيل بإسقاط كل هذه الأدوار مع أدواتها في الداخل والخارج.