أقلام الثبات
تبدو مساع الرئيس سعد الحريري، لتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة، أحد الاهداف العرضية، التي أصابها قصف العقوبات الأميركية بحق شخصيات سياسية لبنانية. في حين أن الأهداف الأميركية الأخرى أكثر خطورة من مجرد تشكيل حكومة وتنازع على مقاعد وزارية، أوتحاصص طائفي وحزبي على حجم التمثيل ونوعه.
فهذا الإستهداف إن كان مقصوداً، أو أنه أضرار جانبية، عطل إلى حد كبير، جهود الحريري وعقد مفاوضاته مع القوى المؤثرة. وأسقط المهلة التي أعطاها لنفسه لإنجاز "حكومة المهمة" وهي عشرة أيام. كما كشف عن حقيقة مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، باعتبارها عنصراً مكملاً لحرب الضغوط والعقوبات الأميركية التي تشن ضد لبنان وشعبه، لإجباره على تلبية المطالب الأميركية والمطامع "الإسرائيلية" التي باتت معروفة، بما فيها نزع سلاح المقاومة، الذي لولاه لما إضطر العدو "الإسرائيلي" إلى التفاوض على ترسيم "الحدود النفطية"، أو حتى مراضاة مشاعر اللبنانيين، بل كان كعادته، يمد أيدي جيش عدوانه الطويلة ويحصل على مراده بالقوة، المغطاة بدعم أميركي غير محدود؛ وبتواطؤ عربي لطالما مارسته أنظمة التطبيع، التي كشفت أخيراً عن أقنعة خيانتها للقضية العربية الأولى وهي قضية فلسطين المغتصبة، وشعبها القابع بعضه تحت الإحتلال، والمشرد جله في بلاد الشتات.
ومن ظواهر تحركات الحريري، بدا أنه عالم قبل غيره، أن شروطه المعلنة والمضمرة غير قابلة للصرف في سوق تشكيل الحكومة. وأن ما لم يعط لماكرون والأميركيين عبر مصطفى أديب، لن يعطى لهم عبر الحريري. لذا جاءت الدفعة الأولى من العقوبات الأميركية، التي أعقبت التكليف وتلت المبادرة الفرنسية الماكرونية، بحق الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس؛ وكأنها تريد كسر إصرار تحالف حزب الله وحركة أمل على التمسك بحقيبة وزارة المال وحصر تسمية وزرائهما في الحكومة بهما. وعندما تكرر الأمر في قصر بعبدا بالنسبة للمقاعد الوزارية المسيحية، جاءت العقوبات بحق رئيس التيار الحر، صهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل. لذا جاء الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل، لاستكشاف آفاق الحل، فالعقوبات المذكورة أقفلت طريق التفاهم بين الحريري وبين اللاعبين الأقوياء، الذين يملكون أكثرية النيابية يحتاجها كل رئيس حكومة لدخول سرايا زقاق البلاط.
وإذا كانت الرسالة الأميركية الأولى محدودة الفعل والصدى، فإن العقوبات على باسيل، جاءت كطابة "البليار"، يقصد بها إصابة أهداف عدة بضربة واحدة، حملت معان عديدة واستهدافات تمس التوازنات السياسية القائمة وحتى مستقبل لبنان ذاته.
بالنسبة لباسيل، جاءت الشروط الأميركية التي سبقت العقوبات بحقه، وكانها تقصدت اقفال طرق المرونة أمامه، فتلك الشروط حملت رسالة تقلب كل سياسة التيار الوطني الحر وتجعله يتنكر لذاته. ولو خضع باسيل للشروط الأميركية في تلبية المطالب "الإسرائيلية" وفي استعداء المقاومة وفك التحالف معها، سيتماها حينها مع سمير جعجع وخياراته. ولا يعود أمام باسيل حينها غير طلب بطاقة إنتساب لحزب القوات، الحليف التاريخي "لإسرائيل" ورأس حربة الهجمة الأميركية والسعودية الحالية في لبنان. وهذا أمر يستحيل أن يقبل به هو و"التيار العوني" الذي يرأسه، لأنه إعدام لمشروعه السياسي والتحاق بمشروع خصمه اللدود سمير جعجع. وإن كان باسيل لا يخفي أنه ليس على خلاف أيديولوجي مع "إسرائيل"؛ وأنه يؤيد ما يعتبره "حقها في الأمن"، ربما في تحضير منه لأن يكون رئيس الجمهورية المقبل في مرحلة التطبيع التي ينتظرها البعض مع العدو "الإسرائيلي". وهذا ليس سراً، فالفضائية التابعة لتيار باسيل إبتهجت أيما إبتهاج يوم بدء المفاوضات لترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. واعتبر محللوها العونيون أن تلك خطوة هامة ومرحب بها نحو "السلام" مع "إسرائيل"، لكنهم إشترطوا تاخيرها "لنكون آخر من يطبع من العرب" حسب أقوالهم.
والأخطر في العقوبات الأميركية بحق باسيل، انها باعتبارها عقوبات قهر وإخضاع، تهدف إلى إجباره على الالتحاق بالقسم المقبل من العقوبات الأميركية. فالولايات المتحدة خدمة "لإسرائيل" وحماية لها لن تتورع عن إرتكاب أي جريمة بحق الذين يدافعون عن أنفسهم وبلادهم في وجه غزوها وتوسعها. وهي استخدمت معظم ما يخطر على البال من عقوبات، بدءاً من توريط لبنان بالديون عبر الحريرية السياسية؛ وعبر نهب أمواله العامة وأموال شعبه، بواسطة الفاسدين في السلطة والإدارة، المحميين من الأميركيين أنفسهم، وصولاً إلى خطوة لطالما لوحت بها جماعات أميركا في لبنان؛ وهي التقسيم والفدرلة وغيرها من أشكال التفتيت، التي لا يمكن تنفيذها إلا بعد حرب أهلية دموية وفرز سكاني، شرط نجاحها إنحياز رئيس الجمهورية وجمهوره لها وانقسام الجيش، ليكون حامي الفدرلة بدلاً من دوره الحالي كحام للوطن.
وهناك من لاقى العقوبات الأميركية من داخل لبنان في منتصف الطريق، بإعلان استعداده للحرب ضد المقاومة. وكذلك بدعوات مشبوهة للفيدرالية والحياد؛ وغيرها من شعارات تراكم لإحداث فتنة وحرب أهلية يريدها الأميركي، فيما يخشاها ولا يقدر عليها أتباعه في لبنان. لذا يجري الضغط على رئيس الجمهورية وجمهوره للالتحاق بهذه المشاريع، تحت التهديد بالعقوبات المذكورة، وصولا إلى التلويح بتحرك لم يخف البعض أنه يهدف إلى تنحية رئيس الجمهورية، وهو أمر فوق طاقة أخصام الرئيس السياسيين، طالما هو متحالف مع المقاومة. ولذا يبدو مشهد العقوبات الأميركية كطاولة "بليار"، يريد الأميركي بضرباته فيها إصابة أكثر من هدف وهز أكثر من شباك. لكن الفشل حليفه هو وأتباعه حتى الساعة. وربما حتى قيام الساعة.