الثبات - إسلاميات
فضل الصَّبر على المديون المعسر
العزم على سداد الديون مطلوب شرعاً بمجرد أن يستدين الإنسان، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها، أتلفه الله" (رواه البخاري)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحدٍ يدَّان ديناً يعلم اللهُ منه أنه يريد قضاءه إلا أدَّاه اللهُ عنه في الدنيا" (رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان، وهو حديث صحيح)، وتحرم المماطلة على الغني القادر على سداد دينه، وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطلُ الغني ظلمٌ" (رواه البخاري ومسلم).
إذا تبين هذا فإنَّ من لم يستطع قضاء دينه يعتبر معسراً، والإعسار ضد اليسار، وهو في الاصطلاح: (عدم القدرة على النّفقة، أو عدم القدرة على أداء ما عليه بمالٍ ولا كسبٍ) (انظر الموسوعة الفقهية 5/246)، والمعسر يستحق الإنظار كما قال الله تعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [ البقرة:280]، وهذه الآية عامة في كل معسر كما هو قول جمهور العلماء، وضابط الإعسار عند الفقهاء هو ألا يجد المدين وفاءً لديونه من أموال نقدية أو عينية كالعقارات والأراضي ونحوها، وقد حدد مجمع الفقه الإسلامي ضابط الإعسار في قراره المتعلق ببيع التقسيط حيث ورد في القرار: "ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألا يكون للمدين مالٌ زائدٌ عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً"، فالمعسر الذي عنده أموال عينية كالأراضي أو العقارات وهي زائدة عن حوائجه الأصلية، يلزمه بيعها لقضاء ديونه، ولا يلزمه أن يبيع بيته الذي يسكن فيه، أو أرضه الزراعية التي يعتاش منها، أو سيارته التجارية التي يشتغل عليها. وينبغي أن يعلم أن إنظار المعسر واجب شرعًا عند الأئمة الأربعة ما دام معسرًا حقيقةً، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].
وفي الظروف الصّعبة التي يمرّ بها العالَم، تضيق الأحوال بالذين يعيشون الكَفاف، والذين يحصلون على أرزاقهم يوماً بيوم، فإذا تعطّلت أعمالهم وأشغالهم، لم يجدوا ما يقتاتون به، ومع ذلك ينطبق عليهم قول ربّنا سبحانه: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273] لذا صار لزاماً على كلّ واجِدٍ ومقتدرٍ أن يتفقّدَ أحوال الذين يعرفهم من إخوانه الضعفاء والفقراء، وأن يبادرَ بمدّ يد العون والمساعدة لهم، بما يخفّف عنهم، ويحقق لهم الحدّ الأدنى من العيش الكريم، وهذه مسؤولية دينية ومجتمعية على الأغنياء والميسورين من أبناء المجتمع تجاه إخوانهم، وبهذا تعلو روح التعاون والتضامن والتكافل بين أفراد المجتمع، وتسود المحبة والألفة بينهم، يقول النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" رواه مسلم، ويقول عليه الصلاة والسلام: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً" رواه مسلم. وحال التعاون والتكاتف والتكافل هي الحال التي يحبّها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" متفق عليه.
وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من قسوة القلب، الذي فقد الرحمة، فلا يشعر صاحبه مع الناس، ويبخل عليهم بأي مساعدة مع قدرته عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: "لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ" رواه أبو داود والترمذي.
وقد أمرنا ربّنا سبحانه بالصبر على المُعسر بل وندبنا إلى التجاوز عنه، فقال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
وهذه خمس مبشرات لمن يصبر على المديون المعسر:
1- تجاوز الله تبارك وتعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِراً قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ".
2- التيسير لليسرى: قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}، وفي صحيح ابن ماجة: "مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة".
3- الاستظلال بظل الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، فَلْيُنْظِر مُعْسِراً أَوْ لِيَضَعَ لَهُ"، وهذه تربية وقيادة بالحب "مَنْ أَحَبَّ" في الصحيح: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيْمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
4- النجاة من كرب يوم القيامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَع عَنْهُ".
5- احتساب أجر صدقات يومياً حتى الأجل ويضاعف بعده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَة قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَة".