أقلام الثبات
أعلن الأمين العام لحلف الناتو بنس ستولتنبرغ بداية الشهر الجاري أن البلدين العضوين في الحلف اليونان وتركيا أتفقا على الدخول في محادثات تقنية في مقر الحلف لوضع آلية من أجل منع وقوع أي نزاع عسكري، وكان وراء تلك الخطوة المانيا، وبفعل الضغط الفرنسي على أثينا تراجعت اليونان عن عقد أي حوار مع تركيا، مما أثار حفيظة وزير الدفاع التركي الذي أستنكر دور فرنسا سواء في الحلف أو في شرق المتوسط، فباريس وبفعل عتادها البحري والجوي باليونان وقبرص وضعت خطاً أحمر لأردوغان في شرق المتوسط، من دون تحفظ روسي وبمباركة اميركية، على غرار الخط الأحمر المصري في سرت والجفرة، والذي جاء أيضا من دون تحفظ روسيا التي نصبت منظومات S300 الدفاعية بسرت، بعد قيام عناصر"فاجنر" الروسية بتفخيخ أغلب الطرق المؤدية لسرت من جهة الغرب.
ثم ذهب الفرنسي ليحبط مشاريع أردوغان التوسعية في العراق وقد نرى هناك الرافال قريبا في صفوف القوات الجوية العراقية، ومن قبله لبنان بعد تنصيب سفير لبنان في المانيا مصطفى أديب كرئيس لوزراء لبنان، مستغلا الزخم الفرنسي في لبنان منذ واقعة إحتجاز سعد الحريري في الرياض، كي تقطع فرنسا الطريق على أردوغان، بعد ما قدمه التركي من حزمة عروض تبدأ بتجنيس اللبنانيين من أصول تركية، وإعمار ما تدمر جراء إنفجار مرفأ بيروت، ووضع ميناء مرسين التركيّ القريب في خدمةِ اللّبنانيين حتّى يتم الانتهاء من ترميم مرفأ العاصمة.
الدولة الفرنسية أخذت على عاتقها حماية كامل أوروبا بشقيها الشرق والغربي، الكاثوليكي والأرثوذوكسي، متعظة من دروس التاريخ عندما تقاعست أوروبا عن دعم الأمبراطور قسطنطين في وجه العثمانيين، بعد أن طلبت روما (الكاثوليكية) من الأمبراطور البيزنطي أن تتبع كنيسة القسطنطينية الفاتيكان مقابل الدفاع عنه، وبرغم تنازله وإعترافه بمقرارات مجمع فلورانسا شفهيا، إلا أن في داخله كان كحال لسان شعبه الذي قال :"عمامة بني العثمان ولا قلنسوة الكاردينال"، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع فرنسا التي كانت حائط الصد الأوروبي الأخير في وجه المد الأموي الصاعد من الأندلس تجاه قلب أوروبا بمعركة "بلاط الشهداء/بواتييه" 114 هـ/أكتوبر 732م.
ولا يخفى على أحد أن زيارة ماكرون للبنان لم تحبط مشاريع أردوغان فقط، بل وبعض مخططات المتربصين بلبنان من الخليج، بعد لقاء الرئيس الفرنسي برئيس كتلة حزب الله بالبرلمان محمد رعد أسوة بلقائه برؤوساء باقي الأحزاب اللبنانية، مما يعني أن فرنسا المسؤول الدولي الأول عن لبنان صار يعترف بالأمر الواقع رغم محاولات البيت الأبيض إحباط أي إعتراف بحزب الله، وهو ما تجلى في تصريحات ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكي.
الرياض من جهتها، خسرت الشهر الماضي ورقتين في غاية الأهمية، الأولى هي قيادة الخليج، بعد أن قفزت الإمارات رسميا إلى المقعد الأول بالخليج دون منافس بعد تطبيعها العلني مع "إسرائيل"، في ظل تأزم الأمور أمام ولي العهد السعودي بعد تفجر قضية سعد الجابري، ليتضح أن أذرع الأخطبوط محمد بن نايف لم تقطع كلها بعد، كما ظن ولي العهد برغم كل ما فعله طوال السنوات الماضية، وعلى أثر التطبيع الإماراتي "الإسرائيلي" فقد أنتهت صلاحية "المبادرة العربية" حتى وإن حاول البعض إحيائها، والورقة الثانية بعد إن أصبح ماكرون زعيم الطائفة المارونية والسنية معا في لبنان.
وعلى أمل أن تعوض السعودية خسارتها في شرق سورية، بعد أن رسمت واشنطن دوراً للإمارات في شمال سورية مع عصابات "قسد" نكاية في عدو أبوظبي الأول، والسعودية مع العشائر العربية التي أصبحت تهدد الوجود الأميركي هناك، بعد إغتيال شيوخ قبيلتي البقارة والعكيدات على يد عصابات "قسد"، بعد أن ضمنت واشنطن نصيبها في النفط السوري بفضل الأكراد، وما سبق سيكمل خريطة تغيرات كبرى ستحل بالمنطقة الواقعة من العراق غربا وحتى سيناء شرقا، خريطة سترسم بمسارات أنابيب النفط والغاز أولا، في ظل مشروع "الشام الجديد" بين مصر والأردن والعراق، وستستكمل حسب ما يجري من تعديلات بين دول "سايكس بيكو الجديد" على خريطة توزيع المناطق والنفوذ في الشرق الأوسط، وهذا ما تتسابق عليه كل الأطراف، فخاسر تلك المعركة لن يعود للخريطة قبل مئة عام أخرى.