عندما شُكلت حكومة حسان دياب في مطلع العام الحالي لتحلّ محلّ حكومة سعد الحريري الذي استقال بضغوط داخلية وخارجية وكادت استقالته تُحدث فراغاً سياسياً، اعتبرت أميركا انّ التشكيل بذاته ثم شمول الحكومة على ممثلين عن حزب الله مع الإقصاء الطوعيّ لحلفائها عن الحكومة، نوعاً من التحدي المباشر لها ومحاولة لتعطيل إحدى حلقات خطة بومبيو المعتمدة لتفجير لبنان ووضع اليد عليه من أجل امتلاك قراره ومحاصرة مقاومته واستعماله لمزيد من الضغط على سورية وإيران من خلال «استراتيجية الضغوط القصوى» التي اعتمدتها أميركا ضد محور المقاومة بعد أن فشلت «استراتيجية القوة العمياء الإرهابية» في إسقاط هذا المحور.
ولأنها اعتبرت حكومة حسان دياب تحدياً كبيراً لها وتعطل خطة عولت عليها للإمساك بلبنان، فقد فرضت عليها هي الأخرى حصاراً ومقاطعة عربية وإقليمية وصلت إلى حدّ منع أي دولة من أتباعها في الإقليم من القيام بأيّ اتصال او الاستجابة لأي عرض أو طلب تطلبه الحكومة تلك، وكلفت حلفاءها العلنيين والمخفيين بالكيد للحكومة لإسقاطها ووضع لبنان أمام خيارين إما حكومة تقصي حزب الله عن الحكم ثم تعطّل سلاحه حتى ولو أدى ذلك إلى حرب أهلية تستدعي حرباً إسرائيلية، او التجويع ودفع الناس للاقتتال بعد انفجار فتنة في الداخل حيث احتفظت أميركا من اجل تسعيرها بورقة المحكمة الدولية التي حددت شهر آب لإعلان الحكم البدائي فيها وهو حكم معروف المضمون مسبقاً حتى وقبل النطق به. فالمحكمة التي أوجدت نظام إجراءات وأثبات خاص بها لم يعرفه القانون الجنائي ولا أصول المحكمات الجنائية في العالم تتمكن بموجب هذا النظام ان تخترع أشخاصاً وتخترع جرائم وتلصق هذه بأولئك من غير ان تخشى مساءلة او رقابة. وبالتالي تعوّل أميركا على حكم المحكمة ليكون فتيل تفجير فتنة في لبنان يخدم خططها من خلال تجريم عناصر من حزب الله والتحريض عليه وعلى بيئته طائفياً.
في هذه الأجواء جاء انفجار بيروت الكارثة التي حلت بلبنان، والتي كما قاربنا احتمال حدوثها من خلال فرضيات أربع (حادث من غير خلفيّة، حادث مع خلفية، عمل إرهابي، عمل عدواني إسرائيلي) شكلت مناسبة لمراجعة السلوك الأميركي حيال لبنان في كل الملفات العالقة معه خاصة تلك المتصلة بالمنطقة الاقتصادية البحرية وترسيم الحدود البحرية، وبالحدود البرية، ومزارع شبعا وبقية المناطق المحتلة على طول الحدود البرية، فضلاً عن سلاح حزب الله خاصة الصواريخ الدقيقة، ووجود حزب الله في الحكومة، ودور حزب الله في الصراع الإقليمي.
رأت أميركا بعد انفجار بيروت الكارثة، أن لبنان دخل مرحلة وهن وتشتت من شأنها منعه من الجدل ورفض ما يطلب منه، خاصة أنّ الكارثة حلت بعد سنة ونيف من ممارسة الحصار الاقتصادي الأميركي الذي دفع إلى الانهيار النقدي في لبنان ووضع الشعب اللبناني بمعظمه في ضائقة مؤلمة يظهر شبح الجوع ماثلاً فيها هذا فضلاً عن الآثار المؤلمة التي لا زالت جائحة كورونا تحدثها في البنية اللبنانية.
مع هذا الواقع اللبناني البائس الذي أنتجه الحصار الأميركيّ مترافقاً مع جائحة كورونا والمتفاقم مع كارثة بيروت رأت أميركا أنها أمام اللحظة التاريخية لتأخذ من لبنان ما تشاء، وحركت أتباعها في الداخل لممارسة مزيد من الضغط والتهويل عبر طلب تحقيق دولي بانفجار بيروت، تحقيق يشهر سيوفاً ويسلطها على رقاب خصوم أميركا ويشكل سلاحاً يحمي أتباعها ويخفي حقيقة الظروف التي تظافرت لإنتاج هذه الكارثة بدءاً من ظروف تحميلها وإبحارها مروراً بظروف تخزينها واستعمالها وصولاً إلى ظروف تفجيرها، وإلى التحقيق أضيفت طلبات الانتخابات المبكرة وشلّ عمل المؤسسات الدستورية التي يشكل حزب الله جزءاً منها.
ولأجل استثمار اللحظة التاريخية أميركياً وعدم تفويت الوقت أوفدت أميركا السفير ديفيد هيل في مهمة استطلاعية وتحضيرية وتحذيرية للمسؤولين اللبنانيين، أرسلته في مهمة جس نبض لمعرفة مستوى نضوج البيئة اللبنانية للإملاء الأميركي تحت عنوان أساسي واحد «أنتم ضعفاء وعليكم ان تذعنوا لما نطلب، وإلا…».
بيد انّ هيل ورغم حصوله من بعض القوى السياسية في لبنان على ما جعله يغتبط خاصة أنه سمع من هؤلاء ما يتخطى الطلبات الأميركيّة نفسها، كما لمس عند بعضها الآخر ما يرى فيه عاملاً لتعميق الانقسام والشرخ بين اللبنانيين، رغم كل ذلك فقد سمع هيل من بعض من التقاهم وتناهت إلى سمعه مواقفهم ممن لم يلتقهم أيضاً سمع لا يرضيه ولا يريحه بل ما يجعل من مهمته فاشلة على أصلها، خاصة في المواضيع الأساسية التي جاء من أجلها. والتي يمكن ذكر بعضها كالتالي:
1 ـ رفض الأكثرية النيابية للحكومة الحيادية التي يهدف طرحها لإقصاء حزب الله عن القرار، وتعطيل نتائج الانتخابات النيابية وتجريد الأكثرية النيابية من دورها وإفراغها من محتواها، وإجماع لدى الأكثرية النيابية على رفض الانتخابات المبكرة التي يؤدي اعتمادها إلى دخول لبنان بشكل أو بآخر في فراغ سياسي يعقب تهميش الأكثرية القائمة ويصبّ في خطة بومبيو.
2 ـ رفض التحقيق الدولي في كارثة المرفأ ما جعل أميركا تقدم وبكلّ وقاحة على زجّ «مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي» (F.B.I) ليكون شريكاً في التحقيق في لبنان، رغم ان لبنان لم يطلب ذلك، ولكنه قبل العرض الأميركي حتى لا يخلق مع أميركا مشكلة إضافية في هذا الوقت بالذات. لكن إقحام أميركا لجهازها هذا في التحقيق من شأنه أن يثير علامات استفهام هامة من قبيل القول هل لدى أميركا ما تخشاه وتريد إخفاءه؟ او هل تخطط أميركا لاستثمار كارثة المرفأ لملاحقة مَن تريد بمسؤولية عن فعل او تقصير تخترعه وتلفق له وهي المختصة بهذا النوع من السلوكيات؟ ويزيد من هواجسنا حول التدخل الأميركي في التحقيق ما أعلن عن معرفة المتعاقد الأميركي بوجود المستودع الكارثة قبل 4 سنوات؟
3 ـ تمسّك لبنان بحقوقه في الملفات الأساسية التي جمّدت أميركا وساطتها فيها لما يقارب السنة تقريباً (أيّ منذ البدء الفعلي بتنفيذ خطة بومبيو في لبنان) ما يجعل عودة شينكر في آخر الشهر الحالي تحت علامة استفهام. إذ لن يقدم لبنان على أي تنازل حتى ولو كان ميل لدى البعض للتساهل فالأمر بات معروفاً ومحسوماً ومتداولاً ومكرّساً على كلّ شفة ولسان حول حقوق لبنان في تلك المواضيع والأمر مختصر ببساطة: في البحر لنا 860 كلم2 وفي البر لدينا حدود دولية لا تنازل عنها والمطلوب خروج «إسرائيل» من مزارع شبعا والغجر والنقاط الـ 13 المحتلة على طول الحدود مع فلسطين المحتلة. أما التوطين فرغم أنّ شينكر لن يطرحه الآن فيكون من المفيد تذكيره برفض لبنان له.
مع هذه المواقف اللبنانية القاطعة نميل إلى القول بأنّ هيل لم يجد في لبنان ما يجعل مهمة شينكر سهلة، وانّ أميركا رغم ما يمرّ به لبنان من المصاعب الاقتصادية والسياسية والصحية والتي فاقمها انفجار بيروت الكارثي لن تتمكن من انتزاع ما عجزت عن انتزاعه في السنوات الأربع الماضية، وستتأكد أنّ من تتكل عليهم من اتباع وحلفاء في الداخل اللبناني لا يملكون القدرة الكافية لتحقيق ما تطلب وتبقى المقاومة وجمهورها على قدر من الجهوزية لتعطيل مسعى الاستثمار الأميركي للمآسي اللبنانية التي صنعت بعضها اليد الأميركية ذاتها.
العميد د. أمين محمد حطيط ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً