الثبات - التصوف
الحكم العطائية
"طلبُكَ منْهُ اتِّهامٌ لَهْ، وطلبُكَ لَهُ غيْبَةٌ مِنْكَ عنْه، وطلبُكَ لِغَيرِه لِقِلَّةِ حيائِكَ مِنْه، وطلبُكَ مِنْ غيرِه لِوُجُودِ بُعْدِكَ عنْه"
هذه الحكمة تتألف من ثلاث فقرات، لكلِّ منها معنى مستقل:
الفقرة الأولى: "طلبك منه اتهام له" قضت محكمة نمرود على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، بالحرق لأنه كسّر أصنامهم.. وجيء بالحطب الكثير فأضرمت فيه النيران، حتى ارتفعت ألسنة اللهب واشتدّ أواره، وجيء بسيدنا إبراهيم مقيداً ووضع في المنجنيق (القاذف) ليلقى به منه إلى تلك النيران الموقدة.
فهل في الساعات التي يحتاج فيها العبد إلى ربه عز وجل كهذه الساعة التي مرّ بها سيدنا إبراهيم احتياجاً إلى لطف الله وحمايته؟!..
ـ مثال توضيحي قصة النمرود مع سيدنا إبراهيم إذ قرر حرقة بالنار ومع ذلك فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام لم يتجه إلى ربه عز وجل بأي طلب. بل قال وهو يرمى به في النار: حسبي الله ونعم الوكيل وهذه الكلمة استسلام لأمر الله وحكمه، وليس فيها رائحة طلب لشيء.
فما الذي صرف خليل الرحمن عن المسألة وطلب النجاة من عتو نمرود وبطشه؟ إنَّه حالٌ هيمنت عليه في تلك الساعة، ألجمته عن السؤال، كان يعلم أنَّه إنما حكم عليه بهذا العقاب الفريد من نوعه لأنَّه انتصر لوحدانية الله بكلِّ ما أوتي من وسيلة وقدرة. وهو يعلم بأن الله عز وجل لا بدّ أن يبادل حبه لذاته العليّة بحبه الذي هو أجلّ وأقدس، بل هو الأسبق في قضاء الله وعلمه، وهل يتخلى المحب عن محبوبه، بل هل يتخلى المحبوب جل جلاله عن عبده الذي يحبه؟ هيهات، بل معاذ الله!...
لقد كان سيدنا إبراهيم إذن واثقاً الثقة التامة بأن مولاه الواحد المحب المحبوب لن يتخلى عنه، وهذا هو معنى قوله: حسبي الله ونعم الوكيل، إنها كلمة الواثق برحمة الله المطمئن إلى حمايته له ودفاعه عنه وانتصاره له، فكيف يتجه إليه بالمسألة والطلب مع ذلك؟!..
إنَّ حاله التي كان فيها من عظيم الثقة بلطف الله وبانتصاره له وتداركه له بالحماية، يتناقض بشكل حاد مع الطلب الذي يفترض أن يتوجه به إلى الله عز وجل.. فطلبه في هذه الحال التي هو فيها إنما يفسر باتهامه الله عز وجل بأنه لن يتداركه بالحماية من بطش نمرود إن هو لم يطلب منه ذلك. وصاحب هذه الثقة يتبوء مركزاً سامياً عند الله عز وجل.
يشير إليه الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله عن ربه عز وجل: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطيال سائلين" إذ المراد بالذكر هنا شدّة ثقة العبد بالرب، واستغراق القلب في هذه الحال.
قلت لك: هذه حال تنتاب العبد المؤمن بربه عز وجل من جراء وضع مرّ به أو عمل قام به، فضاعف ذلك من ثقته برحمة الله وحمايته ونصره وتأييده. وتلك هي الحال التي هيمنت على سيدنا إبراهيم فألجمت فاه عن التوجه إلى الله بالمسألة والطلب.. والأمر أو العمل الذي أورثه تلك الحال انتصاره لدين الله ووحدانيته، عندما أقبل فكسر كل تلك الأصنام وجعلها جذاذاً متناثرة. إنَّه -وقد انتصر لمولاه وخالقه- أيقن أنَّه عز وجل ناصره وأنَّه لن يتخلى عنه، فكيف يسأله مع ذلك سؤال الخائف المرتاب.
ولكن هذه الحال قد تغيب لتظهر في مكانها حال أخرى تتجلى من خلالها مشاعر العبودية لله عز وجل خوفاً من مقت الله وغضبه وتحسباً لعقاب يرى العبد أنه متعرض له، وذلك لتقصير وقع فيه أو لسوء بدر منه، فتدفعه هذه الحال إلى أن يلوذ بكرم الله وصفحه، وإلى أن يرجوه الصفح عن زلاته والعفو عن تقصيره، ومغفرة ذنوبه وما وقع فيه من سوء.
وقد تجلت في حياة سيدنا إبراهيم هذه الحالة الثانية، كما تجلت فيها الحالة الأولى التي وصفتها لك، تأمل في كلامه هذا الذي يرويه عنه ربّه عز وجل بعد أن جادل قومه وأباه في مسألة الأصنام التي يعبدونها: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} {الشعراء: 26/77-82}
إذن فالحال التي انتابت سيدنا إبراهيم هنا هي الخوف من تقصيره في جنب الله والخوف من عواقب ما يسميه خطيئة ارتكبها فاستحق بها العقاب.. إنَّ من الطبيعي أن تدفعه هذه الحال الثانية إلى أن يبسط كفيه بالدعاء تذللاً وانكساراً بين يدي الله عز وجل، وهذا ماحكاه عنه بيان الله عز وجل بعد أن تحدث عن خطيئته وطمعه بمغفرة الله له، إنَّه يقول: {ربِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} { الشعراء: 26/83-89 }
الفقرة الثانية: عن هذه الحالة الثانية يتحدث ابن عطاء الله في حكمته الأخرى الآتية قائلاً: "لا يكن طلبك تسبباً إلى العطاء منه، فيقلَّ فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحق الربوبية".
إذن هما حالتان تعتريان المؤمن: إحداهما: تبعث فيه الخجل من الطلب والدعاء، وذلك عندما يوحي الطلب بضعف ثقة الطالب أو السائل برّبه عز وجل، وما قد ألزم به ذاته العليّة تجاهه.
الأخرى: تبعث فيه الخوف مما يرى نفسه مستحقاً له من الزجر الإلهي والتأديب الرباني، فيدعوه ذلك الخوف إلى الانكسار والتذلل على أعتاب الله عز وجل، وإلى أن يسأله التفضل بالصفح عن إساءاته وزلاّته وأي الحالتين تعرّض لها المؤمن، فإنها على كل حال لا تكون إلاّ من ثمرة صدق العبودية لله تعالى. والمؤمن الصادق المتفاعل مع إيمانه، لا بدّ أن يتقلب، من علاقته بالله عز وجل، في إحدى الحالتين.
ثم ينتقل بنا ابن عطاء الله إلى الفقرة الثانية فيقول: "وطلبك له غيبة منك عنه"، طلبك له.. أي بحثك عنه. تقول: طلبت فلاناً، أو طلبت آية في كتاب الله، أي فتشت وبحثت عنها أو عنه، وإنما يكون طلب الشيء عند غيابه، وإلا فلا معنى لطلبه؟ فمتى كان الله غائباً حتى يطلب أي حتى يبحث عنه؟!..
لقد سبق أن أكد ابن عطاء الله في الحكمة السادسة عشرة أنَّ الله عز وجل ليس محجوباً بشيء عن بصيرة الإنسان وعقله، إذ ما من شيء يفترض أن يكون حجاباً عن الله تعالى إلا وهو دليل عليه، فكيف يكون الدليل على الشيء حجاباً دون رؤيته أو العلم به؟!..
وتأمل في دقة التعبير في قوله: "...غيبة منك عنه" إنَّه يقول لك: عندما تجد نفسك في حالة تحتاج فيها إلى البحث عن الله، فاعلم بأنَّه ليس غائباً عنك وراء حجاب قد حجبه عنك، ولكنك أنت الغائب عنه داخل سجن من الجهالة أو التيه أقصاك عنه... إذ إن الذي عَشِيَتْ عيناه عن رؤية ما هو موجود أمامه، لا يقال إنَّ الموجود غائب عنه، ولكن يقال إنَّه هو الغائب عن الموجود، إذ الحجاب يتمثل في ضعف لاصق به، وليس متمثلاً في غشاء مسدل على الموجود.
وتلك هي حال من عَشِيَ عقله، بسبب استكبار هيمن عليه أو عصبية استعبدته، فلم يعد يؤمن بوجود الخالق عز وجل، وراح يسأل: أين هو؟ دلّني عليه، قل له: إنَّه أمامك، بل إنَّه ملء بصيرتك وإدراكك، ولكن فلتمزق العصابة التي عصبت بها بصيرتك، بتحررك من الاستكبار الذي ران عليك، تعلم عندئذ أنَّك أنت الذي كنت غائباً عنه داخل سجن مظلم من كبريائك.
وما أعتقد أننا بحاجة إلى مزيد شرح لهذه الفقرة، بعد الذي ذكرناه مفصلاً ومطولاً في شرح الحكمة السادسة عشرة.
الفقرة الثالثة: فيقول فيها ابن عطاء الله: "وطلبك لغيره لقلة حيائك منه"، الغير هنا تشمل الأشخاص أو الكائنات التي يتوهم أنَّ لها فاعلية مع الله أو من دون الله، كما تشمل الأعراض والمتع التي يبتغيها ويتعلق بها الإنسان من دون الله عز وجل.
فمن تأمل في هذه المكونات وعظيم إبداعها ورائع نظامها، ودقائق أهدافها، ثم ابتغى لها خالقاً ومنظماً من دون الله عز وجل، فقد بالغ في جرأته على الله وعدم الاستحياء منه.
ولا يشترط لابتغاء غير الله أن يذهب هذا المبتغي في البحث بمذهب الملاحدة والمنكرين لوجود الله عز وجل، بل يدخل في ذلك على حد تعبير ابن عطاء الله هنا من صدّق بسببية حقيقية بين الخالق ومخلوقاته، فأضاف الغذاء إلى فاعلية القوت والنبات، وأضاف فاعليتها إلى فاعلية السحب والأمطار، وأضاف فاعليتهما إلى أبخرة البخار، موقناً بأنَّ لتلك السلسلة من الأسباب الجعلية الظاهرة، فاعلية حقيقية طبيعية أو فاعلية أودعها الله في الأشياء ثم تركها تفعل فعلها.
إنَّ على الموقن بوحدانية الله عز وجل أن يعلم أنَّ الله واحد في ذاته العلية، وواحد أيضاً في صفاته السنية كلها، فلا يشركه في تلك الصفات شيء.
وهذا التوحيد يستلزم أن تعلم أنَّ ما نظنه أسباباً، في نظام هذه المكونات إنما هو اقترانات شاءها الله تعالى بين سابق ولاحق، استمرت وتكررت، فتبدّى لنا من ذلك التكرار المستمر أن السابق منهما سبب والمتأخر منهما مسبب.