أقلام الثبات
بعد تصريحات الرئيس المصري في قاعدة (سيدي براني) بالقرب من الحدود الليبية التي أكد فيها على أن مصر لن تسمح بتجاوز الصراع في ليبيا خط "سرت - الجفرة"، بعد الإشارة إلى أن سرت والجفرة بالنسبة لأمن مصر خط أحمر، وأن أي تدخل مباشر لمصر في ليبيا باتت له شرعية دولية، جاءت التحركات في كل عواصم الدول المنخرطة في الملف الليبي، وكان من أبرز وأهم التحركات من فرنسا والولايات المتحدة وتركيا.
فتحرّكت فرنسا في مسار متوازٍ مع الجهود المصرية، بعد أن تحوّل الأمر لفرنسا من منافسة إيطاليا في الميدان الليبي (كما كان الحال عليه في بداية الحرب الليبية) إلى صدام مع تركيا في مياه المتوسط، بعد أن جاءت حادثة البارجة الفرنسية التي تعرضت لتهديد بالقصف من قبل ثلاث بوارج تركية في مياه المتوسط، أثناء محاولة البارجة الفرنسية إيقاف سفينة تركية مشتبه في نقلها إرهابيين، وبعد أن سجلت العملية البحرية "إيرين" فشلاً أكبر من فشل العملية "صوفيا"، رغم الحضور العسكري الأوروبي بالمتوسط، إلا أنه لم يستطع في تلك العملية اعتراض أي سفينة تركية، كما أرادت فرنسا تحييد تونس، وعدم دعمها لتركيا في ليبيا، وهو ما تجلّى في أول ردّ فعل إيجابي من الرئيس التونسي عندما أعلن أن بلاده ترفض وجود قواعد أجنبية في الجارة الليبية، وأن شرعية حكومة الوفاق مؤقتة، ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة تنبع من إرادة الشعب الليبي، وهو التصريح الذي جاء كإشارة على تحركات مدير المخابرات التركية ووزير الدفاع التركي التي تسابق الزمن لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية وأخرى جوية في غرب ليبيا.
في الجهة المقابلة اجتمع وفد أميركي بقيادة قائد الأفريكوم الجنرال ستيفين تاونسند، والسفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند مع فايز السراج ووزير داخليته فتحي باشاغا، ووكيل وزارة دفاع الوفاق صلاح النمروش، ورئيس أركانه الفريق ركن محمد الشريف، وقائد غرفة العمليات المشتركة اللواء أسامة الجويلي، وقائد المنطقة العسكرية في طرابلس اللواء عبد الباسط مروان، وقائد المنطقة العسكرية الوسطى اللواء محمد الحداد، وقائد غرفة عمليات سرت-الجفرة العميد إبراهيم بيت المال.
وعقد الاجتماع العسكري بامتياز في مدينة زوارة بأقصى الغرب الليبي وليس بقصر الضيافة بطرابلس (التي يخشى أي دبلوماسي أو سياسي أميركي التواجد فيها في ظل انفلات الوضع الأمني ) كما هو المعتاد، بعد أن تعمد الأميركي تغيير مكان عقد الاجتماع الذي كان من المقرر عقده بطرابلس في الساعات الأخيرة، كي يأتي حضور السراج ومن معه لمدينة زوارة، كاستدعاء أميركي وتلك حقيقة لا يمكن إنكارها، كما لا يفوتنا أنه أول اجتماع أميركي مع جميع القيادات العسكرية الفعلية لحكومة الوفاق، وبحضور آمر غرفة عمليات "سرت-الجفرة" العميد إبراهيم بيت المال.
في ظل تلك المشاهد المتسارعة في ظرف زمني قصير جداً، نلخص رؤيتنا لها في النقاط الآتية :
أولاً : ألحت تركيا بشدة على واشنطن للنزول بثقلها إلى الملعب الليبي بحجة مواجهة روسيا التي هي بالأساس انسحبت من الميدان الليبي، وكان انسحابها من أهم الأسباب الرئيسية في سقوط غرب ليبيا بيد مرتزقتها، ولكن الحقيقة أن أردوغان يريد من التواجد الأميركي هناك، خلق صدام مع مصر، كي يكون الصراع في ليبيا مصرياً ـ أمريكياً، ولا يكون مصرياً ـ تركياً، وذلك كحال تحركات إسرائيل الخفية بدول حوض النيل، لكي تكون أي مواجهة قادمة على أرض بنيشنقول- قماز (موقع تشييد سد النهضة) مواجهة بين مصر ودول حوض النيل وأفريقيا جمعاء، وليس بين مصر وأثيوبيا فقط، بعد أن بات هناك أردوغان جديد في أثيوبيا اسمه أبي أحمد، حتى أن تركيا ذهبت لتصعّد من حربها ضد مصر بجبهتها الجنوبية، فدعمت أثيوبيا بأطقم فنية جديدة لمتابعة أعمال سد النهضة، وبمنتصف الأسبوع ضبطت الاستخبارات العسكرية السودانية كميات من الأسلحة والذخائر التركية المهربة من ولاية القضارف شرقي البلاد في طريقها إلى أثيوبيا، وهي الولاية التي تعرضت لعدوان شنه الجيش الأثيوبي، استشهد على أثره جنود من الجيش السوداني في تحرك جاء كبالون اختبار جديد للسودان ومن قبلها مصر.
ثانياً: مارست تركيا ضغطاً شديداً على فايز السراج نفسه، وعلى قيادات حكومة الوفاق العسكرية كافة كي يتجهوا للزحف نحو "سرت-الجفرة" لأطماع أردوغان في الهلال النفطي، وهو ما تجلّى في ردود قيادات حكومة الوفاق على كلمة الرئيس المصري بشاشات قنوات قطر وتركيا، والتي جاءت موتورة وخارجة عن سياق كل الأدبيّات السياسية، فتركيا ليس لديها مشكلة في تنفيذ وقف إطلاق النار في ليبيا، ولكن بشرط أن ينسحب الجيش الوطني الليبي من سرت والجفرة.
ثالثاً: طلب الولايات المتحدة من السراج التخلّص من بعض المليشيات التي تصاعد دخان جرائمها إلى عنان السماء، وحينها سيكون وزير الداخلية فتحي باشاغا بطل ذلك المشهد، وهي فرصة كان ينتظرها باشاغا سواء من المخابرات المركزية الأميركية أو المخابرات الفرنسية للظهور بمظهر الرجل الأول بطرابلس، وحينها سيتدخل ليس لتصفية بعض المليشيات فقط، بل ولتغليب بعضها على الأخرى، على غرار ما حدث بين أسلافهم في سوريا.
ولنا في العراك الدائر بين مليشيات مدينة غريان عبرة، وربّما نرى قريباً فتحي باشاغا على رأس مليشيات من مصراتة تقتحم غريان، وتقوم بتصفية بعض المرتزقة لتحقيق المصالح الأمريكية، ولتحسين صورة حكومة الوفاق أمام العالم،وهي الخطوة التي استبقت فيها المخابرات التركية نظيرتها الأميركية عندما حضر أتراك لمحو بصمات جرائم مرتزقتهم في ترهونة وصرمان وصبراتة بعد أن سيطروا عليها.
رابعاً: فور انتهاء الاجتماع الأميركي بالوفاق توجه قائد الأفريكوم إلى تونس، وعقد اجتماعاً مع وزير الدفاع التونسي عماد الحزقي، حيث كانت مليشيات الوفاق، وهي جيش تركيا بغرب ليبيا، فتونس تعني محطة الترانزيت لنقل مرتزقتها إلى ليبيا، حتى أن موانئ تونس باتت في معجم الغازي كولايات جنوب شرق الأناضول.
وهذا ما يعني أننا سنرى أمراً جديداً في مسار الحرب الليبية، وننتظر نتائج الاجتماع الأميركي بالسراج وعصابته، والذي لم يتخط الربع ساعة إن كان الغرض منه إقناع السراج بالتخلي عن نعرة التعالي والعناد التركية، والتوجه للحوار السياسي للحفاظ على ما كسبه على الأرض، أم ستلعب الولايات المتحدة بنفسها دور تركيا القذر في ليبيا وبشكل مباشر، ولذلك تأهب الجيش الوطني الليبي بخطة جديدة متكاملة لتأمين المنشآت النفطية أشرف عليها اللواء ناجي المغربي رئيس جهاز حرس المنشآت النفطية، واللواء ونيس بوخماده، وآمر قوات الصاعقة بالقيادة العامة للقوات المسلحة اللواء موسى المعداني، ورئيس غرفة عمليات رأس لانوف، وبعدها صرح رئيس البرلمان عقيلة صالح بأنه إذا تجاوزت المليشيات الخط الأحمر في سرت، فلن تتردد ليبيا في استدعاء مصر للتدخل العسكري.
وهنا لا يفوتنا أنه حتى الأن لم تفتح واشنطن أي خطوط اتصال تذكر مع القاهرة تجاه ما يحدث في ليبيا.
أخيراً: وليس آخراً كلمات الرئيس المصري النارية ضد كل من يهدد أمن ووحدة الأراضي الليبية، فجرت حالة في الوطن العربي من الاعتزاز بالنفس التي سلبت منّا في غفلة من الزمن بعد سلسلة انتكاسات على جميع الأصعدة في كل بلد عربي تقريباً، وعلى القيادة السياسية المصرية استغلال تلك اللحظة لإحياء الهوية المصرية والقومية العربية، ولو كانت العقيدة المصرية حاضرة والقومية العربية ثابتة لما ظهر هذا المد الإخواني المرعب في بلادنا، والذي شكل قوة أردوغان الرئيسية ضدنا، وبخطوة مثلها على أرض الميدان ترسم خطاً أحمر في أذهان أعدائنا تجاه جمهورية مصر العربية، وكي تكون بداية جديدة بإذن الله.