أقلام الثبات
لا يخلو التاريخ الشيعي من المجازر والتهجير والقتل والتكفير منذ اغتيال الإمام عليّ (عليه السلام) في مسجد الكوفة، وقد استشهد جميع أئمة الشيعة إما اغتيالاً بالسيف أو بالسم، أو في السجن أو قتلاً في كربلاء، وبقيت جثامين بعضهم المطهّرة أياماً قبل دفنها، فالإمام الكاظم (عليه السلام) بقي على جسر بغداد أياماً بعد اغتياله في سجون العباسيين، والإمام الحسين (عليه السلام) بقي ثلاثة أيام في صحراء كربلاء.
تعرّض الشيعة من كل أنظمة الحكم من الأمويين إلى العباسيين، ومن العباسيين إلى المماليك والمغول، إلى العثمانيين، وإلى الإنجليز والفرنسيين، للاضطهاد والمجازر والتهجير إلى شمال أفريقيا وفلسطين في زمن الأمويين.
لا تستطيع الذاكرة الشيعية أن تستفيق من الحزن الدائم، الحزن العقائدي الممزوج بالعاطفة الصادقة على الأئمة، ولا زالت كربلاء متلازمة مع أحزانهم اليومية ومرسومة في عيونهم.
اعتاد الشيعة على التعرض للقتل وقطع الرؤوس والصلب؛ كما صلبوا الشهيد زيد بن علي، ثم أحرقوه وذرّوا رماده في نهر الفرات، وكما صلبوا الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني، الذي قتلوه في دمشق بالسيف ثم صلبوه ورجموه وأحرقوه بسبب "عقيدته ومذهبه، وبقي شعار الإمام زين العابدين (عليه السلام): "القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة".. فعاش الشيعة "ثلاثية" القتل والشهادة والكرامة، وهم يقاتلون ويطيرون بجناحي "الكربلائية والمهدوية".
لم يتعرض الشيعة اللبنانيون منذ الحرب العالمية الأولى إلى ما تعرضوا له في أيلول عام 2024 وحرب الـ66 يوماً التي أعقبتها، حيث تعرضوا لمجزرة وحشية عن بعد، فكانت مجزرة "البيجر"، وهي العملية الأولى بالقتل عن بعد في العالم، ومجزرة أجهزة اللاسلكي، واغتيال القيادات، مع ربح العدو "الإسرائيلي" وأعداء المقاومة المتعدّدي الجنسيات، "الجائزة الكبرى" باغتيال "السيد الشهيد" (محور المحور) مع 25,000 شهيد وجريح، بينهم المئات من مبتوري الأيدي وفاقدي العيون، وأكثر من 300.000 مبنى وبيت مهدّم أو متضرر، و14 قرية دمرت "إسرائيل" عمرانها وذاكرتها وتاريخها وبيوتها وشجرها الذي بناه الجنوبيون طوال 100 عام، وطارد "الإسرائيليون" الموتى، فنبشوا قبورهم وقصفوا أرواح الموتى في مقابر الجنوب وبيروت.
اعتقدت "إسرائيل" وأمريكا وبعض العرب و"الضباع" اللبنانية الخبيثة أن المقاومة وأهلها قد ماتوا وانهزموا، وما عليهم إلا أن يرفعوا راية الاستسلام وتسليم أسلحتهم، بانتظار أن يذبحهم التكفيريون أو يقتلهم الرصاص الإسرائيلي، وهم يتنافسون على "كيس طحين"، كما في غزة المظلومة.
لكن الشجعان الحسينيين الذين قاتلوا كما كربلاء طوال 66 يوماً وواجهوا خمسة فرق "إسرائيلية" قوامها أكثر من 50,000 جندي تدعمهم الطائرات والبوارج والحصار الداخلي، فقاتلوا بلا قيادة وبلا تموين وبلا خطط مركزية، فكان الواحد منهم قائداً ومخططاً ومنفذاً ومذخّراً مقاتلاً حتى الاستشهاد، ولم يكن هناك أسرى، فارتقى أكثر من ثلاثة آلاف شهيد في حرب 66 يوماً، وقهروا الجيش الذي لا يُقهر ومنعوه من الوصول إلى الماء في الليطاني فخادع فلجأ إلى الخديعة "والتحكيم" ووقع اتفاقاً لوقف النار الذي كان حصانه، ليكمل حربه من جانب واحد ويحقق ما لم يحققه طوال ستة وستين يوماً ووقع الشيعة في فخ "التحكيم" ثانية... وعسى ألا يقعوا في أفخاخ التحكيم القادمة.
لم تنتهِ الحرب بعد، ولن تنتهي الحرب إلا بعد أن تستعيد المقاومة وأهلها قواعد الاشتباك التي تحمي لبنان، وسيكون هذا بإذن الله عاجلاً أم آجلاً، ولو سقط كل العرب وتمادى العدو "الإسرائيلي" أن يقصف أصدقاءه العرب، كما قصف "قطر" وهدد حليفه الإستراتيجي "تركيا" يقوم بسياحة عسكرية في "سوريا الجولاني".
يستطيع العدو أن يحتل كل العرب وأن يستقر في أوطانهم ويُلزمهم بتوقيع صفقات الاستسلام والتطبيع، لكنه لن يستطيع أن يحتل لبنان ولن يستطيع أن يُلزم المقاومين "الشيعة" بالاعتراف "بإسرائيل" وسيقهرونه كما قهروه أول مرة وأجبروه على الانسحاب، فتاريخ الحسنيين يشهد أن ثوراتهم لا تخمد وأن أيديهم لا توقع "صكوك" العبودية والمبايعة للظالمين، يكفي أننا نستشهد شجعاناً مقاتلين كراماً ويُقتل غيرنا ويُقصف ذليلاً ضعيفاً يستجدي رحمة الصهاينة المحتلين.
"النكبة الشيعية" في أيلول خسارة معركة وليست هزيمة، وسنأخذ بالثأر للشهداء والمهجّرين واليتامى، ونحن قادرون، بشرط مراجعة أخطائنا وتحصين أسوارنا والتخطيط العاقل والموضوعي، المتلازم بالتوكل على الله سبحانه والقتال في سبيله فقط، لِيُكرمنا بالنصر القادم إن شاء الله.
سَنهزمهم بإذن الله... وسَننتصر...
نكبة أيلول... خسارة معركة وليست هزيمة _ د. نسيب حطيط
الجمعة 12 أيلول , 2025 12:22 توقيت بيروت
أقلام الثبات

