أقلام الثبات
ربما "نُفخ به بعض العرب أكثر من اللازم"، وطار أحمد الشرع بدايةً على أجنحة عربية - تركية وبات فوق الغيوم، وأمطر تراب سوريا بدماءٍ سورية.
تقاسمته قطر مع تركيا، فدخلت كل من السعودية والإمارات لانتشاله من الحضن "الإخواني"، ثم انتزعته "إسرائيل" إلى حضنها، وقضمت الجنوب بعد أن نهشته أنياب إرهابيين أجانب وتكفيريين من الداخل السوري، وسقطت شرعية الشرع في السويداء، بعد أن كانت قد سقطت في الساحل، وبات وضعه الآن كما غيمة الصيف التي تنتظر سيناريو رحيلها.
ولم يكن مفاجئاً بيان جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، في الدورة العادية رقم 164، برئاسة دولة الإمارات منذ أيام في القاهرة، الذي أكد على قرار الأمم المتحدة رقم 2254 الصادر في شهر ديسمبر كانون الأول من العام 2015، وقضى بدعوة ممثلي النظام السوري والمعارضة للمشاركة في مفاوضات رسمية بشأن مسار الانتقال السياسي للسلطة، على أن تبدأ تلك المفاوضات في يناير كانون الثاني من العام 2016.
مع تفسير القرار 2254 الذي مضت على صدوره عشر سنوات، بدأت مشكلة أحمد الشرع، لأنه اعتبره نافذاً بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، فيما اعتبرت الأمم المتحدة ومن بعدها جامعة الدول العربية، أن السلطة الحالية في سوريا ليست نتاج حوار بين المكونات السورية، بل هي أشبه بسلطة "وضع اليد" بالقوة العسكرية، وبعد وضع اليد، وجد أحمد الشرع نفسه ألعوبة بين الأيادي.
استطاع في البداية أن يجمع بين المصالح القطرية والتركية، واتهمته كل من السعودية والإمارات "بالأخونة"، وبمقدار ما حاول الاقتراب من السعودية والإمارات ابتعدت عنه تركيا، وإعلانه عن صفقات استثمارية خليجية، تبين لاحقاً أنها وهمية، تماماً كما الزيارات الدبلوماسية "المدفوعة الأجر" لبعض الشخصيات الأوروبية والأميركية.
وفي هذا السياق، أكد المحامي السوري الفرنسي زيد العظم في إطلالة تلفزيونية، أن ملايين الدولارات تُدفع لأعضاء في الكونغرس الأميركي لزيارة سوريا. ويقول أحد المعارضين السوريين في الخارج، إن الشرع استطاع فقط شراء الصورة التذكارية مع ضيوفه، لكنه لم يستطع شراء مواقف واضحة من الدول التي أرسلت موفدين، بل بالعكس؛ واجه شروطاً تعجيزية لا يستطيع تحقيقها وفي طليعتها طرد المقاتلين الأجانب.
وفي الوقت الذي تفرملت فيه الزيارات الخليجية الوازنة إلى سوريا، وقع أحمد الشرع بين فكَّي الكماشة التركية - "الإسرائيلية"، وهي الأكثر إيلاماً كونها تحكُم الجغرافيا السورية، وإذا كانت تركيا قد ارتكبت الفظائع بحق العلويين في الساحل السوري عبر "الجيش الوطني" بمن فيه من عناصر "العمشات" و"الحمزات"، فإن "إسرائيل" اختلقت لنفسها منطقة أمنية منزوعة السلاح في كافة المحافظات الجنوبية، واستحدثت دويلة مسالمة إن لم نقُل موالية لها في السويداء، وحققت حلمها بتمرير "ممر داود" من جبل الكرمل في فلسطين المحتلة مروراً بدرعا والسويداء، وصولاً إلى التنف على الحدود الأردنية، ومن هناك إلى شمالي شرق سوريا، حيث "دويلة الأكراد"، ومنها إلى العراق والخليج شرقاً وإلى تركيا وأوروبا شمالاً.
كل الأحداث التي تجري في سوريا عشية ذهاب أحمد الشرع لإلقاء كلمة سوريا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة الشهر الجاري، مع احتمال زيارته روسيا الشهر المقبل، تبدو طبيعية، حتى مع ما يتم تداوله عن إمكانية لقاء بنيامين نتانياهو في نيويورك، ما يعني توقيع اتفاقية أمنية مع "إسرائيل"، وهي في الواقع إعلان استقلال السويداء عن سوريا، وسحب الأسلحة والمقاتلين السوريين من القنيطرة ودرعا، فيما زيارة الشرع لروسيا تعني ترتيبات إعلان الحكم الذاتي للعلويين في الساحل بحماية روسية.
إذاً لا شيء جديد في ما يتعلق باستقلال أقاليم الأكراد، والعلويين والدروز، سواء عبر تسويات فيدرالية أو التقسيم، لكن الجديد والمفاجئ والصادم لأحمد الشرع، هو في انتفاضة دمشق؛ قلب الإقليم السني المُفترض، عبر ظواهر رفض الواقع الحالي الذي تعاني منه العاصمة على كل المستويات؛ الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والخدماتية، وانتهاءً بالحركة السياسية التصحيحية "السنية الأشعرية" التي تم الإعلان عنها منذ ساعات في عقر دار إسلام بلاد الشام، الرافض لكل الظواهر التكفيرية التي حملها أحمد الشرع في "حملته" على سوريا.
فقد أعلن "عمر رحمون" عبر تسجيل الفيديو، عن تأسيس حزب سياسي جديد تحت اسم "حركة النهج الوسطي في سوريا"، وتعيين نفسه أميناً عاماً للحركة، بالإضافة إلى تسمية "أمير عجان الحديد" رئيساً لها.
وأوضح "رحمون" أن "النهج الوسطي" هي حركة وطنية صوفية أشعرية، تهدف إلى أن تكون جسراً بين العقول والقلوب، وصوتاً جامعاً لكل السوريين دون استثناء أو إقصاء، وذلك انطلاقاً من وعي المثقفين والكوادر السورية.
وفيما يتعلق بمبادئ الحركة، أكد "رحمون" على أن العقل والوعي يمثلان الأولوية، مشيراً إلى أن العقل هو السلاح الأمثل لمواجهة التطرف والجهل، والطريق لفهم الواقع واتخاذ القرارات الصائبة. كما شدد على الإيمان بالتفكير النقدي، والحوار البناء، ونشر الوعي كأساس للنهضة.
كما بين "رحمون" أن نهج الحركة يعتمد على التصوف الأشعري الوسطي، الذي يجمع بين التسامح والروحانية، والحكمة والاعتدال، مع رفض الغلو والتطرف الذي يمزق الأمة، والانحلال الذي يفرغ المجتمع من قيمه.
وبحسب بيان التأسيس، تشمل مبادئ الحركة أيضاً نبذ العنف والتطرف، والتمسك بالعدالة والكرامة الإنسانية، وضمان حقوق المرأة في العمل والتعليم والمشاركة في صنع القرار وبناء المستقبل، بالإضافة إلى ضمان حقوق الأقليات في ممارسة شعائرهم وثقافتهم ولغتهم، ورعاية الأجيال والنهضة الفكرية والعلمية، والإيمان بحرية الصحافة واستقلالها ورسالتها في تعزيز الوعي، والتأكيد على سيادة سوريا والانفتاح على العالم.
اللافت هو في توقيت إعلان "حركة النهج الوسطي في سوريا" كحركة إسلامية شامية معتدلة، بعد ساعات من إذاعة بيان وزراء الخارجية العرب، الذي يدعو للحوار بين السوريين بهدف التأسيس لمرحلة انتقالية، بما يعني إسقاط صفة الرئيس المؤقت عن أحمد الشرع وعن ولايته التي جعلها بنفسه خمس سنوات، وبالتالي هو سيكون مطالباً بمؤتمر وطني حواري عام والاستعداد لتسليم السلطة لسواه، ورسالة العرب حول نزع الشرعية عنه واضحة، ورسالة الداخل السني الذي يشكل غالبية الشارع السوري استندت إلى الموقف العربي، وأعلنت عن نفسها نواة الحوار الوطني الحقيقي، الذي قد يكون الفرصة الأخيرة لسوريا الموحدة قبل إعلان الأقاليم استقلالها النهائي.