الثبات - إسلاميات
الباقيات الصالحات
المقبل على بناء بيت إنما يتوجه فعلاً لبناء أساساته وأركانه بل والأرضية التي سيبنيه عليها قبل كل شيء، حتى إذا فرغ من إقامته على أسس متينة وأقام جدرانه ونصب سقفه وزوده بضروريات العيش وأصبح جاهزاً للسُّكنى توجه لإضافة اللمسات الفنية التي يزين بها مقامه وتدخل السرور على نفسه عند رؤيتها ولو أنه من البدء توجه اهتمامه بالزينة والكماليات مهما بلغت منفعتها وجمالها لكان فعله ضرباً من الجنون.
وكثير من الناس يتكالب على الدنيا ويزاحم غيره ويتفاخر بحيازتها وكأنَّها أوتيت على علم من عنده أو حذاقة منه أو كأنَّه ورثها كابر عن كابر فيستعلي على غيره بما آتاه الله فينطبق عليه قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف:34]، وأكثر شيء من مظاهر الدنيا وزينتها يحرص الإنسان على الاستزادة منه هما المال والبنون، وفي سبيلهما ينسى الإنسان نفسه وينشغل بدنياه عن آخرته ويدور حولهما وكأنهما مركز وجوده وامتداده الخالد الذي لا يفنى، بل ويبلغ بكثير منا من يجعلهما مركزية سعادته ونجاحه إذ ترتبط سعادته ونشوته بهما ارتباطا طرديا.
وآي القرآن الكريم إنما تأتي نوراً لتضيء لنا ظلمات دروبنا وتكشف الغشاوة عن عيوننا لترينا الأمور على حقائقها، فلا نعطيها أكبر من حجمها فنضيع شتاتا في السعي المحموم ورائها ويأتي قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] لتحدد وتضبط لك الأولويات من عيشك ومقامك في هذه الحياة في الوقت الذي يحرص فيه الناس على التنافس على ملذات الدنيا وزينتها، فتأتي هذه الآية لتكون البوصلة التي توجهك وتجذب بصرك وبصيرتك لما هو أبقى وأدوم لما بعد هذه الحياة الدنيا، وترد الآية الكريمة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} في سورة الكهف ومرة أخرى في سورة مريم: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم:76] والسورتان تتحدثان عن بشر تحملوا من الأحمال والأعباء ما يذهل أمامه العقل البشري امتثالاً لأمر الله؛ لأنهم تيقنوا أنّ هذه الحياة الدنيا نهاية المتاجر فيها إلى خسران فاشتروا الآخرة بالدنيا وآثروا ما عند الله فهو خير أملاً ومرداً.
وكعادة البشر تخطف أبصارهم وتجذب انتباههم طلائع الأمور وبوادرها فينشغلون بها عن المآلات، فكيف إذا كانت هذه الطلائع فلذات الأكباد والمال الذي جُبل الإنسان على حبه جبلا؛ فالمال والبنون نِعَمتان من نِعَم الرحمن على الإنسان ولا ينكر ذو عقل رشيد ذلك، لكنهما زينة تماماً كما عبر عنهما القرآن وليس من فراغ أن يصفهما بالزينة، فالزينة هي ما يتجمل به المرء ويحسن من مظهره فيه، وكثير ممن لا ينظر لحقائق الأمور ببصيرته تجده يتفاخر بماله وولده وقد جاء في تفسير الآية الكريمة: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] "المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تُتبعوها نفوسكم. وهو رد على عُيينة بن حِصْن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة" (الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي).
وما أكثر أولئك الذين ينشغلون بالزينة عن الغاية الحقيقية من الوجود لتصبح هذه الزينة الغاية والمقصد لهم، فيشغلهم تجميل وتحسين مظاهرهم عن تجميل بواطنهم، وينشغلون بتزيين وتحسين وتعمير دنياهم ويتركون الخراب يعيث في دار خُلدهم واستقرارهم، وكم من زينة صارت حسرة ووبالاً على صاحبها وانقلبت لعداوة ضارية له، وتأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
ما أكثر أولئك الذين ينشغلون بالزينة عن الغاية الحقيقية من الوجود لتصبح هذه الزينة الغاية والمقصد لهم، فيشغلهم تجميل وتحسين مظاهرهم عن تجميل بواطنهم، وينشغلون بتزيين وتحسين وتعمير دنياهم ويتركون الخراب يعيث في دار خُلدهم واستقرارهم
وتأتي الآية الكريمة {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} في سورة الكهف بعد قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف:45]، والباقيات الصالحات على اختلاف العلماء حول المقصود بها فمنهم من قال بأنها الصلوات الخمس، ومنهم من ذهب إلى أن المقصود بها التسبيح والتهليل والتكبير والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا أن الراجح من الأقوال فيها كل عمل صالح من قول وعمل أو فعل يبقى للآخرة. (الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي - عمدة التفسير، لابن كثير).
وكأن الإنسان مثل هذه الأرض يزهر وينمو ويزهو بماله وولده ثم ماذا ثم ما يلبث أن يرحل عنه كل ذلك، فتراه إذا مرض أو هرم أو حيل بينه وبين ماله وولده ولا سيما أنهما يطرأ عليهما التغير والعدم أصبح الإنسان كما الهشيم وكأن أيامه وعمره وغناه وولده وقوته تذروها رياح الأقدار والابتلاءات حتى يأتي على آخرها الموت فيخمد ويهمد ويذهب كل ما تباهى وتفاخر وتزين به ولا يغني عنه من ذلك شيئاً.
فأين المال والبنون وأنت تعاني سكرات الموت، وأين زينة الدنيا كلها عندما توضع في قبرك وحيداً وتبعث وتحاسب وحيدا عندها لا يثبت معك إلا الباقيات الصالحات ولا شيء غير الباقيات الصالحات تأتي لتنافح عنك لتظللك في يوم الحشر لتنير قبرك في اللحظة المظلمة في نفس الوقت الذي يتقاسم به أبناؤك أموالك، فما كان زينة لك يوماً ما تركك في أحلك المواقف والظروف ولم يثبت معك إلا عملك، والعاقل من انشغل بمن يصاحبه ويلازمه لا بمن يتركه عند أول مفترق طريق .
كما أن الآية الكريمة فيها اللمسة الحانية التي تمر على قلوب ابتُليت بفقد زينة الحياة الدنيا من مال أو ولد أو كلاهما، فتجبر قلب الذي لم يرزقه الله بهما أو قُدر عليه رزقه في أحدهما لتقول له هذه الزينة ليست من الضروريات التي إن فقدتها خسرت كثيراً وصار الكون عابساً بوجهك ثقيلاً على صدرك، كلا بل إن الزينة من شأنها عدم الدوام والخلود وبقدر ما هي زينة إلا أنها كانت شقاء لمن لم يقدرها ويحسن الشكر عليها أو لمن فرط فيها ولم يؤد حق الله بها، ثم أيها العبد إنما يكون الأسف والندم على شيء يفوتك ويكون عليه مدار التفاضل بينك وبين بني جنسك وفي هذه الزينة لا تفاضل إذ هي أرزاق يقدرها الله لمن شاء ويَقْدِرها على من شاء، إنما الذي يجب عليك أن تسعى فيه وتبذل كل جهدك ما أنت مكلف ومطالب ومسؤول ومحاسب عنه؛ لأنه سيكون مدار محاسبتك وبالتالي فإن فلاحك وفوزك متوقف عليه.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد والفوز بالجنة والنجاة من النار