أقلام الثبات
جاء إعلان القاهرة ومبادرة الرئيس المصري بحضور القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر ورئيس البرلمان الليبي المنتخب عقيلة صالح قويدر على أمل أن يكون قبلة الحياة للازمة الليبية التي دخلت أخطر مراحلها بعد وصول مليشيات المرتزقة إلى أبواب مدينة سرت.
وكانت الأطراف الأوروبية المتداخلة في الملف الليبي كفرنسا وأيطاليا والمانيا واليونان وقبرص، والعربية: كالإمارات والأردن والسعودية داعمة بوضوح للمبادرة المصرية، بينما جاءت ردة فعل كل من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا رمادية غامضة، فتعامل الدول الثلاث مع المبادرة المصرية كان:
أولا : الرئيس الروسي حتى الأن لا يريد أن يعول في الملف الليبي على أي طرف عربي كما فعل في الملف السوري، ولعدم قناعة بوتين بالعرب أسباب كثيرة، وبرغم كل ما فعله الأتراك في الروس بسورية، إلا أن الروسي عندما وجد نفسه أقترب من صدام مباشر مع تركيا في ليبيا بعد سقوط ترهونة أخر معاقل الجيش الوطني في الغرب، فضل التواصل لتقسيم الكعكة بالتراضي.
فتم رسم خط أحمر روسي على منتصف الساحل الليبي يضمن مدينة سرت والهلال النفطي لصالحها، لكن المرتزقة تخطوا ذلك الخط الأحمر وشنوا هجوماً على سرت، وهو ما أجبر الروس على أتخاذ ردة فعل جاءت عبر الغاء اللقاء الذي كان مزمعاً عقده بين وزيري دفاع وخارجية البلدين في بداية الأسبوع الجاري في تركيا، قبل أن يتم تحضير للقاء على مستوى مساعدي وزيري خارجية البلدين تمهيدا لعقد إجتماع قريبا بين وزيري خارجية ودفاع البلدين، وعلى أثر الاتصالات بين موسكو وأنقرة توقف الهجوم الشرس الذي شنه المرتزقة السوريون على سرت بعد أول يومين من المعركة في ظل صمود قوات الجيش الوطني الليبي كي لا يسرق أردوغان أخر كارت هام في جعبة حفتر إلا وهو الهلال النفطي.
وهذا لا يعني بالضرورة أن الأمور أنتهت في ليبيا على أثر ذلك التفاهم الوقتي الهش، ولنا في الميدان السوري عبرة، وبحكم أن دور أردوغان في المشهد الليبي مرتبط بما سيُملي عليه من المخرج الأطلسي.
ثانيا : سعت واشنطن منذ اللحظة الأولى من "إعلان القاهرة" الى البحث عن مخرج سياسي أخر لا يمر عبر مصر، وهو ما ترجم في تصريح مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، عندما قال :"إن المبادرة المصرية تشمل بعض البنود المفيدة، لكننا نرى أن العملية التي تقودها الأمم المتحدة وعملية برلين هما أكثر الأطر البناءة لتحقيق تقدم لوقف إطلاق النار".
ثالثا : ذهبت بريطانيا لتوحد المواقف مع الولايات المتحدة تجاه ليبيا، وتدفع بتركيا نحو واشنطن وموسكو في نفس الوقت كي تكسب تركيا ثقة الطرفين، كما فعلت في أغلب مراحل الحرب السورية، فجاءت الأتصالات بين أردوغان مع كل من ترامب وبوتين.
وهنا قدم مستشار الرئيس التركي نهاية الأسبوع الماضي جملة من التصريحات المسمومة، قائلا ": إن التفاهم مع روسيا فيما يخص ليبيا وارد جدا على غرار سورية، كما أن تفاصيل التفاهم مع الرئيس الأميركي سيجري الإعلان عنها في الوقت المناسب، وأن أبو ظبي تعزز الخلاف بين مصر وتركيا وتقف في وجه أي تعاون مصري معنا في شرق المتوسط حتى ولو كان على حساب مصلحة المصريين."
حقيقة الأمر، يعيش المشير خليفة حفتر أسوأ فترات حياته بعد أن كان على بعد خطوتين من تحقيق حلمه بتحرير كامل التراب الليبي، قبل تخلي بعض الحلفاء الخارجيين عنه كي تنكشف كل خطوطه أمام الغازي التركي، بالتزامن مع تعاظم حجم التدخل الأميركي في ليبيا ضده، وهو ما دفعه لمناورة الولايات المتحدة في بوابتها الخلفية، فحطت طائرة حفتر الخاصة طراز “داسو فالكون 900” في بداية الشهر الجاري بمطار "سيمون بوليفار" بالقرب من العاصمة الفنزويلية كاراكاس على متنها صدام خليفة بلقاسم حفتر للاتفاق على تصدير النفط الى فنزويلا، ويبدو أنها ليست الزيارة الليبية الأولى لكاراكاس، وأن تلك الزيارات التي بدأت منذ شهر على الأقل لم تكن للنفط فقط، فالجيش الوطني الليبي الذي دفع فاتورة تحرير الهلال النفطي وحمايته بالدم، يصدر هو النفط بينما تتحصل مليشيات طرابلس على الأموال بعد أن تقوم الدول التي يتم تصدير النفط لها بدفع قيمته للبنك المركزي المتواجد في طرابلس.
وهو الأمر الذي جعل واشنطن ترد بطريقتها عبر المحكمة الفيدرالية بولاية فرجينيا التي أستمعت لاقوال عائلة منى صويد وعبد الله الكرشيني بأعتبارهم ضحايا في قضية ضد حفتر كما يزعمون، بعد أن قبلت محكمة فرجينيا رفع قضية بسبب امتلاك حفتر عقارات في المدينة اشتراها ما بين عامي 2014-2017 بقيمة 8 ملايين دولار (حسب ما جاء في صحيفة نيويورك تايمز).
بينما يعيش الغازي التركي في حلم كبير لم يعد بمقدوره التنازل عنه بعد أن صار في الشرق الأوسط كالأخطبوط، ذراع في الشام في شمال سوريا، وذراع في غرب العراق ببعشيقة، وأخر يضرب الأكراد في شمال العراق من حين إلى آخر، وذراع في شمال أفريقيا في تونس وأخر في غرب ليبيا، وذراع في عمق الخليج العربي بمشيخة قطر، وأخر في القرن الأفريقي بسواحل وأراضي الصومال.
وبين موقف حفتر ومعنويات أردوغان يتفق الثلاثة الكبار (روسيا، الولايات المتحدة، بريطانيا) على أمرين، الأول عدم تمكين أي طرف عربي من أي ملف من ملفات الحرب في العراق وسوريا واليمن وليبيا، والثاني أن يدفع العرب أنفسهم فواتير كل تلك الحروب، ويبقى الإختلاف فقط في طريقة تحصيل كل دولة من الثلاث لقيمة الفاتورة من العرب.