الثبات - إسلاميات
الوفاء بالعهود و العقود
والوفاء من أخلاق السلوك الاجتماعية العظيمة؛ التي كان للقرآن الكريم بها عناية فائقة؛ لما له من عظيم الدلالة على تزكية النفوس، وصفاء الفطر، وسلامة الإيمان.
1 ـ الترغيب بالوفاء بالعهد:
رغّبَ الله تعالى بالوفاء بالعهود بما أعدَّ الله لهم من الثواب، وبما أثنى به عليهم في مُحْكَم الكتاب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10].
فترى أنّ ذلك الأجرَ العظيمَ لم يقتصر عليهم، بل سرى إلى أصولهم وفروعهم وأهليهم، وأيُّ نعيم للمرء أكبرُ من أن يصحبه فيه أصوله وفروعه وأهلوه، لا جرمَ لا يفرط عاقل بهذا الثناء، وذلك الجزاءُ بعد أن يعلمه وهو قادر على أن يناله؛ إلا أن يكون ممّن غلبت عليه شقوته، وأولئك لهم سوء الدار.
2 ـ الأوامر القرآنية بالوفاء بالكيل والوزن:
الوفاء بالكيل والوزن، وهو المجال الذي يتعلق كليةً بحقوق الآخرين، وما يترتب عليه من قوام حياتهم ومعاشهم، وهو المجال الذي لا سبيل إلى التساهل فيه؛ لأنّه مبنيٌّ على المشاحّة والمقاصّة، فالوفاء فيه يُصْلِحُ للناسِّ أحوالَهم، ويحفظ لهم حقوقهم، ولهذا تكرر الأمر به في القرآن الكريم خمس مرات، منها قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ [الأنعام: 152]. وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾[الإسراء: 35].
وتحدّث القرآن الكريم عن شعيب عليه السلام مع قومه، فقد كان قومه ـ بحكم موقع بلادهم الجغرافي ـ يتحكّمون في طرق التجارة الموصلة بين شمال الجزيرة وجنوبها، وبين مصر والشام وبلاد العراق، فكانوا يفرضون على الناس ما شاؤوا من المعاملات التجارية الجائرة، سعياً إلى جني الربح الفاحش، دون مراعاةٍ لما يقع على غيرهم من الظلم والغبن، وقد شاعت فيهم هذه المعاملات، حتى صارت أمراً متعارفاً عليه عندهم، فلمّا بعث الله شعيباً عليه السلام استهلَّ دعوته بمحاربةِ ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والأوثان، ثم ثنى بمحاربة تلك المعاملات الجائرة، ومن أبرزها: نقص الميزان والمكيال. قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الأعراف: 85].
ونجد تركيز شعيب عليه السلام على معالجة هذا الانحراف المتأصل في قومه بأساليب مختلفة، شملت الأمر والنهي، والترغيب والترهيب. وقد كان لقوم شعيب معاملات أخرى جائرة غير نقص المكيال والميزان، وذلك أمر متوقع ممّن يمارِسُ هذا العمل، ونجد شعيباً عليه السلام يذكر هذه المعاملات في جملة من الأمور التي نهاهم عنها، وهي:
أ ـ بخس الناس أشياءهم:
وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85]. والبخس في الأصل هو: النقص، ومن أحسن ما قيل في حدِّه قولُ ابن العربي رحمه الله: البخسُ في لسان العرب هو: النقصُ بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه. فالبخسُ على هذا أعمُّ من نقص الميزان والمكيال، فإنّه يكونُ في المكيل والموزون وغيرهما كالمعدودات، والمقدَّرات، فيعمُّ كلَّ تصرُّف يُقصد منه انتقاص حقوق الناس، ولذلك صور كثيرة لا تنقضي.
ب ـ الفساد في الأرض:
وقد ورد في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ [الأعراف: 85]. وقوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 85]. والفسادُ في الأرض أعمّ من كلِّ ما سبق، فيدخل فيه كل معصية كانوا يعملونها، من عبادةِ غيرِ الله، ونقص المكيال والميزان، وبخس الناس حقوقهم، وغير ذلك.
ج ـ قطع الطريق:
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ [الأعراف: 86]. وفي هذه الاية نهيٌ عمّا كانوا يفعلونه من القعود في طريق من يريد المجيء إلى شعيب عليه السلام لسماع دعوته، فيصدّونه، ويقولون: إنّه كذاب، وهذا من الأوجه التي حُملت عليها هذه الجملة، وذكر فيها وجهان اخران، أولهما: قطع الطريق وسلب أموال الناس، وثانيهما: القعود في الطرق لأخذ العشور من الناس، وجوّز الشوكاني رحمه الله حمل الجملة على هذه الأوجه كلها.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها شعيب عليه السلام في معالجة هذه الانحرافات في قومه، فإنّه لم يلقَ منهم غيرَ العناد والإصرار، وذلك لشيوع تلك الانحرافات بينهم، وتأصّلها فيهم، وفي اخر الأمر ردوا عليه ردّاً قبيحاً، إذ اعتبروا محاولاته في صرفهم عن معاملاتهم الجائرة ضرباً من الهذيان، سببه ما يداوم عليه من الصلاة، قال تعالى: ﴿قَالُوا ياشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾[هود: 87]، فقولهم: يعنون به: ما درجوا عليه من نقص المكيال والميزان﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾، وبخس الناس حقوقهم، وسائر معاملاتهم الظالمة، فاستهزؤوا بشعيب، وأنكروا عليه تدخله في تلك الأمور، بدعوى أن الأموال لهم، وهم أحرار فيها، يتصرفون فيها كيف شاؤوا، ويفرضون على الناس ما يحقق لهم الأرباح.
وهذا عينُ ما يردِّده المنحرفون عن المنهج الرباني في هذا العصر، بل وفي كل عصر، يتعاطون أكلَ أموال الناس بالباطل عن طريق الغش والخداع، والحيل والربا وسائر المعاملات المحرمة، فإذا نُهوا عن ذلك، تعلّلوا واحتجوا بما يسمّونه حرية الاقتصاد، واستنكروا أن يتدخل الدينُ في هذه الأمور.
والأجدر بهؤلاء، لاسيّما المنتسبين منهم إلى الإسلام أن يعتبروا بما حلّ بأشباههم في سالف الأزمان من الهلاك بسبب معاملاتهم الظالمة، وإصرارهم عليها، أفيأمنُ أحدُهم أن يأخذه الله بعاجل العذاب، ويجعله عبرة لأهل زمانه ولمن بعده، كما جعل قومَ شعيبٍ عبرةً لأهل زمانهم ولمن بعدهم، والعاقل من اتعظ بغيره، لا من وُعظ به غيرُه، فقد كان قوم شعيب أهل شرك وكفر، وتطفيف للمكاييل والموازين، ولم تُجْدِ معهم دعوةُ شعيب إيابهم إلى التوحيد، وإيفاء الكيل والميزان، بل ازدادوا عناداً وإصراراً، فأصابهم عذاب الظلة، وهي
سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب، ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام.
3ـ الأمر بالوفاء بالعقود:
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. ومعنى الاية: يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار الطاعة، أوفوا بتلك العقود التي التزمتم بها، وإنّما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقوداً؛ لأنّه ربطها بعباده، كما يُرْبَطُ الشيءُ بالشيءِ بالحبل الموثق، فالاية الكريمة تنادي الموصوفين بالإيمان أن يفوا بالعقود التي التزموا بها، ووصفهم بالإيمان تهييجاً لهم على الوفاءِ بالعقود؛ لأنّ ذلك من مقتضيات الإيمان الذي تعلقوا به.
4ـ الأمر بالوفاء بالنذر:
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾[الحج: 29]. والنذور: جمع نذر، وهو التزام قربة لم تتعيّن في الشرع، ومنه ما وردت فيه الاية؛ مما ينذره الحاج من أعمال البر في حجه من هدي ونحوه، وهو ما شملته اية المائدة السابقة؛ لأنّ عقداً يعقده المؤمن مع الله تبارك وتعالى، فإفراده بالذكر من بين سائر العقود يدل على أهمية الوفاء به، وحتى لا يفرط فيه المؤمن، فيتخلى عن عدم الإيفاء به لعدم المطالب في الدنيا، إذ لا يزع على الإيفاء به إلا قوة الإيمان، ولذلك كان تهديدُ الله تعالى للمفرطين به مخيفاً، حيث قال: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270].
فإذا كان النذرُ يعلمه الله تعالى فإنّ رهن المجازاة به أداءً أو تفريطاً، فلا يخادع إلا نفسه إن هو لم يفِ به، أما إذا وفّى به فإنه يكون ذا مكانة عالية عند الله تعالى، كما يدّل عليه تنويه الله تعالى بأهل هذا الخلق العظيم في كتابه الكريم.
5ـ تنويه القرآن الكريم بأهل الوفاء:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد: 19 ـ 20]. فنعتهم الله تعالى بأولي الألباب، أي: أصحاب عقول، حيث هدتهم عقولهم إلى وجوب احترام العهود والمواثيق التي التزموا بها لخالقهم في الإيمان والعبادة، والمخلوقين في المعاملات والسلوك، فلا ينقضون عهداً ولا ميثاقاً، ومنها قوله سبحانه في سياق تعداد صفات أهل البر من عباده: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
6ـ ما أعده الله لأهل الوفاء من الأجر والجزاء:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الدهر:5 7]. فسمّاهم الله تعالى أبراراً، ومعلوم أنّ الأبرار لهم صفات كثيرة تدل على عظمة إيمانهم وتعبدهم، ولكنْ لم يذكر الله تعالى في هذه الآية الدالة على مبلغ ثوابهم وأجرهم إلا صفة الوفاء والخوف، وذلك لأنّ هذا الوصفَ أبلغُ في التوفر على أداء الواجبات، لأنّ مَنْ وفّى بما أوجبه الله على نفسه لله، كان أوفى بما أوجبه الله عليه بالأولى، وذلك يدل على قوة الإيمان، إذ لا يدفع إلى الوفاء بالنذر إلا قوة الإيمان، وتفاوتُ الناسِ عند الله تعالى إنّما يكون بحسب قوة إيمانهم وضعفه، كما دل عليه قوله تَعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. جعلنا الله من أهل الوفاء والتقوى بمنه وكرمه.