قيامُ الليّل والتَهجّد بالأسحَار

الأحد 17 أيار , 2020 03:56 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

الثبات - إسلاميات 

 

قيامُ الليّل والتَهجّد بالأسحَار

 

روى الإمام  البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"، وفي بعض الروايات: "هل من تائب فأتوب عليه"، وفي أخرى: "من الذي استرزقني فأرزقه، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه"، زاد مسلم: "حتى ينفجر الفجر".

أتسمعون نداء الرحمن، أتسمعون نداء الملك الديّان، أتسمعون أم القلوب غافلة لاهية، من الذي ينادي على عباده إنه الله جل جلاله، إنه جبار الجبابرة، وقاصم ظهور القياصرة.

 في هذا الحديث يبين الله  جل جلاله  أنه يحب من عباده القيام بين يديه في الثلث الأخير من الليل، وكونه أفضل الأوقات لسكون القلب وعدم انشغاله بغيره، ويشوقهم للقائه وقربه ومناجاته، ويحثهم على طلب فضله وجوده، وأنه يسمع دعائهم ويحثهم على الإكثار منه لقربه منهم وعلمه بحالهم وحاجتهم، وأنه قريب من كل داع يدعوه منهم فيتفضل عليهم بإجابته تفضلاً عليهم وإكراما، وأن من سأله أعطاه سؤله، أليس فينا من يحتاج للهداية إلى صراطه المستقيم، ومن يحتاج لقضاء دينه، ومن يحتاج لشفائه ورفع الضر عنه، ومن يحتاج أن يهدي الله له زوجته وأولاده، ومن يحتاج لمن يفرج همه وينفس كربه ويذهب عنه الضيق والحزن، أليس منا من هو مظلوم فينصره.

ووعد سبحانه أيضاً أن من استغفره وهبه مغفرته، وأفاض عليه بنفحات رحمته، أليس منا من كثرت ذنوبه، وظهرت عيوبه، وتعاظمت سيئاته، فهو الذي وعد ووعده الحق أنه من تاب إليه وأناب غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أو مثل الجبال، ولو كانت ملء الأرض كلها، وهو الذي وعد عباده التائبين بتبديل السيئات حسنات، أليس هو سبحانه الذي يفرح بتوبة عبده وأمته، ، ألا يحق لنا أن نفرح بذلك ونبادر بالقيام بين يديه، وأن نتلذذ بذكره والسجود بين يديه، فمن علم ذلك يقيناً بادر إلى ترك فراشه، وقام ليناجي حبيبه ووليه، ويتقرب إلى محبوبه الذي أفاض عليه بنعمه، ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وفي ذلك الزاد إلى الدار الآخرة التي وعد الله عباده القائمين بين يديه في خلواتهم أن لهم عنده في الجنان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي ذلك إشارة عظيمة لقرب الرب - جل وعلا - من عباده، وأنه يمن عليهم بعظيم فضله وجوده.

لو يعلم المحروم سعادة من يناجي ربه، ويتلذذ بقربه، ويبكي بين يديه لمحبته له وشوقه، يرجو رحمته ويخاف عذابه، يرى السعادة كلها في القيام بين يديه لتلاوة كلامه، ويرى الفرح والسرور في تسبيحه وذكره، ويرى عظيم فضله في السجود بين يديه للتمتع بمناجاته وقربه، ويرى شجون القلب وفرحه بطاعته لربه، فيالها من سعادة لا ينالها إلا من صدق مع ربه، قال تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60- 61]، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 64].

فهؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ للنفس بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم ساجدون قائمون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام، وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى والخوف من عذاب جهنم يقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 65- 66].

ويكثرون من الاستغفار على قلة ذنوبهم، فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق وثمرة التصديق، وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم، لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياما، فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم ولا يرون فيها ضماناً ولا أمانا من النار إن لم يتداركهم الله بفضله وعفوه ورحمته. قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ  وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17- 18].

قال الحسن البصري رحمه الله: "لا ينامون من الليل إلا أقله كابدوا قيام الليل".

إن قيام الليل سمت الصالحين وقربة إلى رب العالمين، روى الترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي  رضي الله عنه عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم -قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومغفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم".

وروي عن الشافعي  رحمه الله  أنه كان يجزئ الليل، فثلثه الأول يَكْتُبُ، والثاني يُصَلِّي، والثالث يَنَامُ.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت: لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً"؛ رواه البخاري.

إن قيام الليل شأنه عظيم وله تأثير قوي على سلوك الفرد ودعوته وأمره ونهيه، فاحرصوا يا عباد الله على أن تقوموا من الليل ولو جزءاً يسيراً، فإن ركعة واحدة بالليل خير من عشرين في النهار، وإنها لتعرضك لنفحات ربك الكريم ومنها إجابة الدعاء، قال  صلى الله عليه وسلم : "إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة"؛ رواه مسلم.

وهذه بعض الأسباب المعينة بإذن الله تعالى على قيام الليل:

(1) محبة الله والشوق لقربه ومناجاته.

(2) الإخلاص في عبادته.

(3) معرفة فضل قيام الليل.

(4) قراءة آية الكرسي وأذكار النوم وقراءة المعوذات والنفث والمسح على الجسم فهو حصن - بإذن الله تعالى - لا يخترقه الشيطان.

(5) مجاهدة النفس والشيطان، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد)).

(6) قصر الأمل وتذكر الموت لحديث: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.

(7) اغتنام الصحة والفراغ: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"؛ رواه البخاري.

(8) الحرص على النوم مبكراً وأن ينام على طهارة، وألا يكثر من الأكل، ولا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال التي لا فائدة منها، ولا يترك نوم القيلولة، ويجتنب الذنوب والمعاصي.

ذكر عن الثوري رحمه الله أنه قال: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل