الثبات - اسلاميات
أهم أحداث السيرة في شهر رجب
"غزوة تبوك"
تعد غزوة تبوك آخر غزوة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث وقعت في شهر رجب من العام التاسع الهجري الموافق 630 ميلادي، جاءت هذه الغزوة بعد عام من غزوة مؤتة التي استشهد فيها زيد بن حارثة بعد أن حمل الراية وأبلى بلاءً حسناً ثم حملها بعده جعفر بن أبي طالب حتى استشهد ثم في لحقهما في النهاية عبد الله بن رواحة.
سميت بغزوة تبوك، التي أرست دعائم الدولة الإسلامية ومهدت لفتوح الشام، لأنها وقعت عند بئر تبوك في فصل الصيف في شدة الحر وقد بلغ العطش والتعب من المسلمين مبلغهما حتى كادوا أن ينحروا بعيرهم ليشربوا مائها من شدة العطش. فضحت هذه الغزوة المنافقين وكشفت أعذارهم وأقوالهم الكاذبة التي أبدوها حتى يتخلفوا عن الحرب، ومن بين هذه الأعمال بناء المسجد الضرار الذي أراد به المنافقون تحقيق مآرب ضد الإسلام لكن الله أخبر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يريدِه هؤلاء المنافقين ولذا أمره بهدم المسجد.
كانت امبراطورية الروم من أقوى وأعتى وأعظم الإمبراطوريات في ذلك الوقت، كان العرب يهابونها ويعملون لها ألف حساب، ولما كان من الضروري تأمين حدود الدولة الإسلامية ودعوة الأقرب منها لدخول الإسلام، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم خصوصا بعدما جاءته أخبار أنهم يعدون العدة لغزو المسلمين لإنهاء -كما كانوا يزعمون- تلك الدولة الناشئة التي أخذت تهدد الكيان الروماني المسيطر على المنطقة.
أمر الرسول أصحابه بالاستعداد للغزة وجمع الأموال من أجل تجهيز الجيش، وصلت أخبار الروم إلى الرسول في ظروف صعبة جدا حيث كان وقت الصيف وقد اجدبت الأرض، واشتد الحر، وقل الماء.
لم يكن أمام رسول الله حل سوى مواجهة الرومان رغم كل التحديات التي تواجه جيش المسلمين، أبلغ الرسول القبائل العربية المجاورة وأهل مكة لاستنفارهم على الحرب وحثهم على الصدقات والدعم المادي للجيش الإسلامي، نزلت في هذا التوقيت آية من سورة "التوبة" توصي المسلمين بالقتال والصمود، لذا كان رد فعل المسلمين تجاه قرار الرسول سريع وواضح فقد تدفقت القبائل والأفراد والمقاتلون للمدينة، وأتى القريب والبعيد استعداداً لقتال الروم.
جهز سيدنا عثمان بن عفان ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وتصدق سيدنا أبو بكر بماله كله، أما سيدنا عمر بن الخطاب فقد تصدق بنصف ماله وظن أنه سيسبق سيدنا أبا بكر بذلك، ويقول سيدنا عمر بنفسه: أمرنا رسول الله يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي فقال رسول الله: ما أبقيت لأهلك، فقلت: مثله، وأتي أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله ما أبقيت لأهلك قال: أبقيت الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.. ثم تصدق الصحابة بما عندهم من مال.
قدَّم الفقراء من المسلمين ما لديهم من نفقة على استحياء؛ وقد تعرضوا لغمز ولمز المنافقين، فقد جاء أحد هؤلاء الصحابة بنصف صاع تمر، وجاء آخر بأكثر منه، فلمزها المنافقون وقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت الآية الكريمة {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
واستخلف الرسول محمد بن مسلمة على المدينة وعلى بن أبي طالب على أهله.
أثناء السير قاصدين تبوك، تعرض الجيش لمجاعة فاستأذنوا النبي في نحر إبلهم، فلما أذن لهم النبي، جاءه عمر فأبدى مشورته في هذا الأمر وهو أنه إذا تم فعل ذلك نفدت رواحل الجند وهم أحوج إليها في الطريق الطويل، ثم أشار على الرسول بأن يجمع أزواد القوم ثم الدعاء لهم بالبركة فيها، فأخذ الرسول بمشورة عمر ودعا في الطعام المتبقي حتى أكل القوم وشبعوا.
حدثت بعض المعجزات أثناء رحلة السير لا يتسع المجال لذكرها منها تكثير ماء تبوك، سحابة الماء، خبر ناقة رسول الله، تكثير الطعام وغيرها. كما نزلت آيات قرآنية إبان الغزوة منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
اقترب الجيش من تبوك في مشهد يعكس القوة والهيبة ويبث الرعب في قلوب العدو الذي يفوق المسلمين، لكن شتان الفرق بين الجيشين؛ فجيش رسولنا يحارب من أجل إعلاء كلمة الله ونشر الدين الإسلامي وتدمير ممالك الكفر والشرك.
ما أن رأى الروم جيش المسلمين حتى فروا هاربين مذعورين وتحقق الغرض من الغزوة دون قتال ودون أي اشتباك حربي مع العدو الذي أخلى مواقعه للمسلمين -الدولة الإسلامية الناشئة- ونتيجة لذلك خضعت النصرانية التي كانت تدين بالولاء للروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة "مدينة العقبة حالياً على خليج العقبة"، وكتب رسول الله بينه وبينهم كتابا يحدد ما لهم وما عليهم.
بعد هذا النصر الذي تحقق للمسلمين دون قتال، أصر الرسول على البقاء في تبوك بضعة عشر يوماً، وفي رواية عشرين يوماً؛ لكي يثبت أنَّه ليس خائفاً من الروم وأعوانهم.
الرسول تصرف في هذا الموقف على غير عادة الجيوش في ذلك الزمن حيث كانت الجيوش تمكث في أرض المعركة ثلاثة أيام فقط، إنَّه القائد والرسول والشفيع والخبير والمعلم والمحارب.
لم ينتهي النصر عند هذا الحد، بل تضاعفت مكاسبه حينما أتى ملوك وأمراء مدن الشام المتاخمة للجزيرة العربية يصالحون رسول الله على الجزية. بعد الغزوة، فكر الرسول في استكمال المسيرة ومطاردة الرومان في بلاد الشام، لكنه استشار المسلمين، فأشار عليه عمر بن الخطاب بالرجوع إلى المدينة وقال له: يا رسول الله، إن للروم جموعاً كثيرة، وليس بالشام أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله أمراً"، فأخذ برأي عمر ورجع الرسول ومعه المسلمون إلى المدينة.
هكذا كانت غزوة تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام، فقد جاءت بعدها عمليات عسكرية متواصلة لفتح هذه البلدان، والتي خاضها خلفاء رسول الله من بعده، بل إن الرسول قبل موته جهز جيشاً بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة ليكون رأس حربة موجهة صوب الروم، وطليعة لجيش الفتح، ضم هذا الجيش جُلَّ صحابة رسول الله، ولكنه لم يقم بالمهمة إلا بعد وفاته في خلافة أبي بكر الصديق.