الحكم العطائية ... "الحق ليس بمحجوب، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه ..."

الأربعاء 19 شباط , 2020 01:40 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

"الحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصراً، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر، وهو القاهر فوق عباده"

 

ثمة فرق كبير بين قولك: الشمس محجوبة عني، وقولك أنا محجوب عن الشمس. فالقول الأول يصدق بما لو كان على صفحة الشمس سحاب يحول دون رؤيتك لها، والقول الثاني يصدق بما لو كانت على عينيك غشاوة حالت هي الأخرى دون رؤيتك لها.

في الحالة الأولى: الشمس محجوبة عنك، إذ لا دخل لك في الحجاب الذي أخفاها عنك.

وفي الحالة الثانية: أنت محجوب عنها، إذ الحجاب عائد إليك ولعله جزء منك.

فهل في الكون حالة أو زمان أو مكان يصدق أن يقال فيه: الله محجوب عن الإنسان أو عن كائن ما من المخلوقات؟

إذا تأملت في الفرق الذي بدأت به شرح هذه الحكمة، علمت أنَّه لا يتأتى في أي حال أو زمان أو مكان أن يكون الحق جلَّ جلاله محجوباً بشيء ما عنك أو عن غيرك.

ذلك لأنَّه لو حُجب عنك بشيء ما لكان الحاجب له متسلطاً عليه بحكم الحجب والستر، إذ هو الفاعل المحذوف للفعل المبني للمجهول، ويصبح المفعول الذي يسمى في الإعراب نائباً عن الفاعل، هو الله عز وجل، تنزه الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

أي إن الساتر لشيء ما، يرسم حدود وجود ذلك الشيء ويحصره داخل دائرته أو نطاقه، وإلا لما غاب وجوده عن أنظار الذين هم خارج ذلك النطاق.

 ولا شكَّ أن الساتر لا يكون له هذا الشأن في الحصر والتحديد، إلا وهو قاهر للمستور.

ثم إنَّ الشأن فيما يحصره الساتر أو يحيط به أن يكون وجوده في جهة دون غيرها، وعندئذ يكون الساتر فاصلاً بين الجهة التي يوجد فيها المستور والجهات الأخرى التي لا يوجد فيها، وكل ذلك مستحيل في حق الله عز وجل.

إذا تبيّن هذا، فإن ابن عطاء الله يرمي من وراء هذه الحكمة إلى حقيقتين اثنتين، إحداهما تدخل في نطاق العقيدة، والأخرى تدخل في مجال التربية والسلوك.

أما ما يدخل منهما في نطاق العقيدة: فهو ما ينبغي أن تعلمه من أنَّه لا يجوز ألبتة أن تقول: إن الله محجوب عني أو عن عباده، ذلك لأنَّك تجعل الذات الإلهية بهذا التعبير اسم مفعول، وهذا يعني أنَّ ثمة فاعلاً تحكم به وهيمن عليه.

والله عز وجل منزه عن ذلك بالبداهة التي لا تخضع لأي نقاش، ولأنك تقرر بهذا التعبير أن وجود الله محصور في جهة بعينها وليس له وجود فيما وراء تلك الجهة، وهو أيضاً محال في حق الله عز وجل بحكم البداهة. إذ إن مما هو ثابت بالضرورة أن الله كان وليس معه شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي سبق ذكره وتخريجه في حكمة سبقت.

فالجهات كلها كانت معدومة ثم أوجدها الله عز وجل، فهي المحتاجة إليه وليس هو المحتاج إليها، ويا للعجب، كيف يكون الخالق محتاجاً إلى المخلوق ومحاصراً في أقطاره!!..

وأما ما يدخل منهما في مجال التربية والسلوك: فهو ما ينبغي أن تعلمه من أن الإنسان في فطرته التي أنشأه الله عليها متصل بربه عز وجل عالم به نزاع إليه بالحنين والحب ليس في كينونته ما يحجبه عنه. فلما خاض في متاهات الدنيا وانغمس في ملهياتها ومنسياتها وركن منها إلى الشهوات والأهواء، نسج له من ذلك كله حجاب أسدل على قلبه وأحاسيسه، زجّه في النسيان بعد الذكرى وفي الجهل بعد العلم، وابتلاه بالبعد بعد القرب. فأصبح هو المحجوب عن الله بداء سرى بعد العافية في كيانه.

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل