الثبات - اسلاميات
وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب
كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً أعلى للإنسانية الكاملة، وكانت شخصيته الخُلُقية شخصيةً كاملة سامية متعددة النواحي، وقد اجتمع فيه من محاسن الآداب ومكارم الأخلاق ما لم يجتمع لغيره من الناس؛ سواء في شبابه أو في رجولته؛ وسواء قبل بعثته أو بعدها، وقد أجمع المتقدمون والمتأخرون من الرواة والمؤرخين في الشرق والغرب على أنه عُرف في صباه وشبابه بالصدق والأمانة، والتمسك بالفضائل، والترفع عن الرذائل حتى عُرف بين قومه بالأمين، وقد أعده الله تعالى للنهوض بأعباء الرسالة ونشر الدين الحنيف بالحكمة والموعظة الحسنة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبيناً الغرض الأساسي من بعثته النبوية السامية: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ومكارم الأخلاق هذه هي الأساس في حفظ حقوق الآخرين، وعدم الاعتداء، وسلامة المجتمع، ومن ثم التقليل من الخسائر بما يضمن للآخرين التعايش بالصورة الإنسانية الصحيحة.
وكانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد أنَّ كل من هادَنَه لم يقاتلْه؛ سواء أكان من مشركي العرب أم من غيرهم، والمتتبع لأحكام السُنة النبوية ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحروب وسيرته العطرة يري أن الخُلُق العظيم هو جوهر رسالته.
فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأخلاق في سلمه وحربه إلى أن لقي ربه.
من وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب:
- لا يجوز أن تتعدَّى الحرب إلى المدنيين الذين لا يشتركون فيها من الشيوخ والنساء والأطفال والعجزة، أو العُبَّاد المنقطعين للعبادة: أو العلماء المنقطعين للعلم، والخَدَم الذين لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، إلا إذا قاتلوا، أو كان لهم في تدبير الحرب رأي ومكيدة؛ لأنَّ القتال هو لمن يقاتلنا.
ونحن نعلم أنَّ أعراف الدول الآن لا تُجيز قتل المدنيين، ولكن الجميع يعلم من الذي يحترم هذه الأعراف؟ ومن الذي يرعى حرمة المساكين الذين لا يقاتلون؟ وهو ما سنستعرضه لندرك عن يقين مدى عظمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحمته.
أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: "اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيداً، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم".
- عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: "اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ".
كانت تلك هي وَصَايَا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه رضي الله عنهم جميعاً عندما كان يُرسلهم لدعوة الناس إلى الإسلام، والأخذ بأيديهم إلى طريق الله تعالى، وفَتْحِ الأبواب أمام الدعوة الإسلامية حتى تصل لكل البشر، وحتى لا يُحرَمَ أحدٌ من نُور الإسلام العظيم.
-وصية الرسول بالصغار وإن كانوا مقاتلين: لم تكن حالات الحرب والقتال لتُخرِجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أخلاقه السامية، وعن رحمته صلى الله عليه وآله وسلم التي يَتَحَلَّى بها حَالَ السَّلْم؛ لذا فقد كان يرحم الغِلمان وصغار السن الذين لا يملكون أمرهم، ويأتون للحرب ضد المسلمين، أو لمعاونة سادتهم رغم أن تلك المساعدة هي من صميم أعمال الحرب، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرحم طفولتهم؛ ففي أحداث غزوة بدر ذكر ابن إسحاق رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ( أي على الماء)؛ فأصابوا راويةً لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورَجَوْا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما؛ فقالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسجد سجدتيه، ثم سلم وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟!.. صدقا، والله إنهما لقريش".. ثم خاطب صلى الله عليه وسلم الغلامين بلينٍ ورفقٍ قائلاً لهما: أخبراني عن قريش؟".
ومع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا من الجيش الْمُعَادِي جيش المشركين ويُمِدَّان الجيشَ بالماء، إلا أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عاتبَ صحابته الكرام لأجلهما، وأنكرَ عليهم ضربهما؛ بَلْ إنّه لم يتخذهما أسيرين مع أن الحرب على الأبواب، ومع أنهما قد يحملان بعض الأخبار إلى العدو، ولكنَّه رَحِمَ صِغَرَ سِنِّهِمَا وضَعْفِهِمَا.
- وكذلك كانَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل بنفسه؛ فَكَانَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمُقَاتِلَةِ، فَمَنْ رَآهُ أَنْبَتَ قَتَلَهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ اسْتَحْيَاهُ.
وهؤلاء مع أنهم يُقَاتلون بالفعل، إلا أنهم غير بَالِغِينَ؛ وبالتّالي غير مكلَّفين، ومدفوعين بغيرهم؛ فلذلك رَحِمَهُمْ.
- وصية الرسول بالنساء: كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بالنساء وينهى عن قتل النساء؛ فقد روى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
وَعَنْ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ؛ فَبَعَثَ رَجُلاً فَقَالَ: انْظُرْ: عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ؛ فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ. قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فَبَعَثَ رَجُلاً فَقَالَ: "قُلْ لِخَالِدٍ: لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً".
وصية الرسول بالقتلى وذويهم: وظهرت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم في حرصه حتى على القتلى، وكذلك على مشاعر ذويهم؛ لذا فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَة؛ فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبَى، والمُثْلَة".
وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَة".
ورغم ما حدث في غزوة أحد من تمثيل المشركين بـ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عَمِّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُغَيِّر مبدأه، بل حرص على النهي عن المُثلة حتى مع المشركين، ولم يَرِدْ في التاريخ حادثة واحدة تقول: إن المسلمين مَثَّلوا بأحدٍ من أعدائهم.
وقد يَتَّخِذُ البعض قاعدة "المعاملة بالمثل" مبرراً لهم ليفعلوا ما يشاءون في أعدائهم، محاربين كانوا أو مدنيّين، ولكنَّ الإسلام لا يُقِرُّ القسوة أو الظلم مهما كانت المبرّرات، ولذلك لا يُطبق هذه القاعدة مع المدنيين للدولة المحاربة، حتى لو آذوا المدنيين في بلادنا!
يقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
-وصية الرسول بعدم الإفساد في الأرض: لم تكن حروب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يحرصون أشدّ الحرص على الحفاظ على العُمران في كل مكان، ولو كان بلاد أعدائهم؛ فقد جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لجيش مؤتة: ".... ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرَةٍ وَلا تَعْقِرَنَّ نَخْلاً ولا تَهْدِمُوا بَيْتاً".